كنت قد حذرت فى مقال سابق قبيل الثورة من خطر من سميتهم «أنبياء العصر» . وقصدت بهؤلاء من يدعون أنهم إعلاميون وبصفة خاصة من يسمون أنفسهم مقدمى برامج تليفزيونية. وقلت إن مقدمى البرامح التليفزيونية بات دورهم فى المجتمع أخطر من الدعاة فى مساجدهم أو القساوسة فى كنائسهم. فبأيديهم توجيه دفة الحوار ودفعه فى الاتجاه الذى يخدم مصالحهم أو وقفه بالكامل، بل وطرد الضيوف إذا لم يعجبهم الكلام. كان ذلك يحدث قبل الثورة بشكل غير ملحوظ .. ولم أكن أتصور أن يأتى التطبيق العملى الموسع له بعد الثورة خصوصا هذه الأيام. لكن الظاهرة لم تتسع فقط بل ظهرت أيضا بقية تجلياتها ومنها أن هؤلاء الذين لا يرتقون حتى إلى وصف أنبياء العصر بل هم مجرد مدعين للنبوة، هؤلاء باتوا يحتكرون الفتوى السياسية والدينية على السواء. لا بل إنهم يتقمصون بالكامل أدوار مدعى النبوة. فعندما يقول رجل دين رأيه فى معارضى النظام الشرعى المنتخب تقام عليه الدنيا ولا تقعد. وينبرى هؤلاء لمهاجمته قطيعا واحدا بلا استثناء، ويتهمونه بالمتاجرة بالدين. وفى المقابل، عندما يحشد هؤلاء كل قواهم لمهاجمة النظام الشرعى والرئيس المنتخب ويتهمون هذا النظام بالفشل، لا تكون هذه خيانة للوطن ولا عداء صريحا صارخا للسلطة الشرعية. لم يحدث فى تاريخ الإعلام المعاصر الذى عايشناه أو درسناه أن تعرض رئيس وحكومته للهجوم والشتم والتخوين بشكل يومى من قبل إعلام بلده، بما فى ذلك الإعلام المملوك للدولة الذى من المفترض أن يدافع عن النظام ويوضح وجهة نظره، كما هى الحال عندنا الآن. هل يعقل أن يشتم الرئيس المنتخب ويهاجم كل يوم .. كل يوم.. ومن قبل كل هؤلاء جميعا وبلا استثناء.. يعنى .. ألا يجد أى من هؤلاء فى أى يوم من الأيام شيئا ولو واحدا يستحق أن يشكر عليه الرئيس أو على الأقل يجنبه النقد اللاذع الظالم فى ذلك اليوم الذى لا يأتى. لقد استفحلت ظاهرة الإعلاميين مدعيّ النبوة الذين يبدو من متابعتهم أنهم يوحون للناس أنهم لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم. لقد باتوا يحتكرون الفتوى ولا يسمحون لغيرهم بمشاركتهم فى ذلك. ولا حتى إبداء الرأى إلا إذا وافقهم ذلك الرأى. فهم لا يرضون عن أنفسهم بديلا، وكل من عداهم عاداهم، والرأى الوحيد الصائب رأيهم وغيرهم مخطئ، ومن خالفهم أعلنوا عليه الحرب.. إنهم يعلنون الحرب على الوطن والشعب، ولا بد من أن يعرف الشعب من هم أعداء الشعب وثورته. وهنا لا بد أيضا أن يعرف الجميع لمن يذهب ولاء هؤلاء. فما يحدث الآن من مبالغة فى تشويه الإسلاميين بصفة عامة والإخوان بصفة خاصة، وبدرجة تفوق بكثير عملية تشويههم على مدى العقود السابقة، لا يخرج عن كونه حربا متعمدة وانتقاما منظما وممنهجا، يتجاهل عمدا المعاناة التى تكبدوها والتضحيات التى قدموها ولا يزالون، ولا ينكرها إلا جاحد أو.... عندما يتحول الأمر إلى هجوم متواصل بلا تفكير ولا تعقل لا يصبح هذا نقدا ولا معارضة بل يصبح عداء صريحا لا مواربة فيه. ويصبح من المطلوب إعادة النظر فى منظومة الإعلام الحالية برمتها. لقد بات من المطلوب الآن أكثر من أى وقت مضى وضع قواعد واضحة لممارسة العمل الإعلامى، من يمارسه والمؤهلات المطلوبة لذلك وهكذا. لا بد من أن نعرف خلفيات ذلك الذى يخرج على الناس ليشوه أفكارهم ويحرف مبادئهم، مرتديا مسوح الناصحين المخلصين. ما دخل مقدم برنامح رياضى بالسياسة حتى يخرج على الناس ليسب الرئيس المنتخب ويشوهه فى عيون المشاهدين. أليست هذه متاجرة بالرياضة لمصلحة السياسة، توازى المتاجرة بالدين إن كانت هناك متاجرة بالدين حقا. وما علاقة مقدم أو مقدمة برامج ثقافية فى تليفزيون الدولة بالسياسة، يقول أو تقول للناس إن مصر لم تجد بعد الرئيس المناسب، «ولن نفقد الأمل قريبا». أليست هذه فتوى سياسية مضللة محرضة يمكن أن تحرك الشارع وتثير الفتن. من خول هؤلاء إصدار فتاوى بهذه الخطورة ومن يحميهم حقيقية. ثم ما هو تعريف القناة التليفزيونية؟ هل من حق كل من امتلك منضدة يجلس إليها وكاميرا وبضعة آلاف من الجنيهات لا يعلم مصدرها؟ هل من حقه فتح قناة تليفزيونية، لتخريب العقول والنفوس؟ مثلما أن من واجب السلطة أن تدقق فى اختيار المعلم الذى يدرس لأطفال الوطن، والطبيب الذى يعالج أبناء الشعب، والمهندس الذى يبنى لهم، فإن من واجب هذه السلطة أيضا أن تدقق فى اختيار من يتحدث إلى الشعب كل يوم ويدخل كل بيت بلا استئذان، ويقول ما يقول بلا حسيب أو رقيب، تحت شعار حرية الإعلام. أى حرية تلك التى تهدم الأوطان وتحتكر الرأى وتصم الآذان. لا بد من إعادة تقييم شاملة وعاجلة للمنظومة الإعلامية برمتها. فالخطر حقيقى ومحدق. ففشل وخيانة المدرس أو الطبيب أو المهندس أمر قد يلحق الضرر بفرد واحد أو مجموعة محددة من الناس، أما فشل وخيانة الإعلامى مدعى النبوة فهو أمر كفيل بأن يلحق الضرر بالشعب كله وتدمير الوطن بأسره. إنهم يشوهون مصر كلها قبل أن يشوهوا فصيلا بعينه، ونحن لن نحكم بهذه الزمرة من فلول نظام يفترض أنه أسقط بثورة شعبية نادرة الحدوث على مر التاريخ، وأرجو ألا تكون قد أجهضت فى المهد.