قبل أربع سنوات بالتمام والكمال، أنهى الفنان جورج البهجورى معرضه الذى أقيم بقاعة « بيكاسو» بالزمالك تحت عنوان «الناس.. وأم كلثوم»، وهذا الأسبوع عاد البهجورى لثومة مجددا، لكنه أضاف لوحات جديدة وعنوانا جديدا هو « مصر التى فى خاطرى» تتصدر معرضه المقام بقاعة « مشربية »، كأن البهجورى يرى أن مصر فى هذه اللحظة تتجلى فى صورة أم كلثوم التى يملك الفنان الكبير الكثير من الحكايات التى يمكن أن تروى عنها، وهى حكايات لا يمل من استعادتها كلما وجدنى أمامه. يعرف صاحب «أيقونة فلتس» ولعى بالست، التى يرسمها هذه المرة بطريقة مختلفة عن الطريقة التى رسم بها من قبل، يميل أكثر إلى ألوان طازجة وحارة ويخفف من سمات الخطوط الكاريكاتورية التى عرف بها . ويرى الست أكثر قربا من فرقتها وليس من الناس، ثومة هنا جزء من مجموع لذلك لا تستغرب أن ثومة كانت حاضرة فى ميدان التحرير خلال ثورة يناير، وهى تغنى « أنا الشعب، أنا الشعب لا أعرف المستحيلا». ذهبت إلى مرسم الفنان التشكيلى جورج البهجورى الكائن فى حارة صغيرة من حوارى « معروف «، تلك المنطقة العشوائية القائمة فى قلب وسط القاهرة، وعلى بعد خطوات من ميدان طلعت حرب الشهير إلى جانب العديد من البنات التى تنتمى إلى سنوات القاهرة الكومبولبيتانية. بدا لى أن البهجورى اختار مكان مرسمه فى هذه الحارة الضيقة التى تمتلئ بالحرفيين وسمكرية السيارات ليكون إلى جوار بيته الكائن على بعد خطوات قليلة فى شارع عبد الحميد سعيد، أمام سينما أوديون ولكن حين التقيته أضاف لى أسبابا أخرى أهمها أنه أراد أن يكون فى وسط الناس، فهذه هى الحياة التى يحب أن يعيشها كما قالى لى: «لا أنظر لنفسى كفنان متعال، وأحب أن ينظر لى الناس كفنان شعبى « لذلك لم أبذل جهدا للعثور على البيت فقد دلنى أول شخص سألته لأجد نفسى أمام بيت متهالك من طابقين ويبدو على وشك الانهيار تكون من مدخل مفتوح على ردهة ضيقة تصعد منها سلما صغيرا لتجد نفسك فى مرسم حسن الإضاءة ومكون من عدة غرف ضيقة، ومن الصالة تخرج إلى سطح كبير مشرع على مدينة القاهرة بكل صخبها وحيويتها وشمسها الدافئة التى يحتاج إليها فنان مثل بهجورى قضى الكثير من سنوات عمره فى باريس . المرسم يمتلئ بالقليل من الكتب وهى فى غالبيتها « كتالوجات « لأعمال فنانين عالميين وقليل منها كتب أدبية فيها بعض مؤلفات البهجورى ومنها « بهجر فى المهجر «والرسوم الممنوعة» و«أيقونة فلتس» ضحكت حين نظرت لأرفف الكتب التى تذكرت أمامها عبارة كتبها جورج فى مقدمة كتابه « بهجر فى المهجر اعترف فيها بأنه لا يقرأ الكتب التى كانت تهدى إليه من أصدقائه الذين أصبحوا من كبار الأدباء، فقد « كذب عليهم كذبة بيضاء «وأقنعهم جميعا أنه قرأ أعمالهم». جدران الغرف المكسوة بطبقة من الجير السماوى امتلأت بالكثير من اللوحات وقطع النحت التى أنجزها بهجورى فى مسيرته وقليل منها أهدى له وقد تعرفت من بينها على «إسكيتش» لطائر رسمه الفنان الراحل حسن سليمان . لكن اللوحة التى لفتت نظرى أكثر من أية لوحة أخرى فى هذا الزحام كانت خلال صعودى السلم، وهى التى رسمها بهجورى لأم كلثوم وعليها توقيعه الشهير، لكنها ليست لوحة عادية موجودة على أقماش التوال، ولكنها نقلت على سجادة صوفية مصنوعة بطريقة يدوية . قال لى البهجورى عندما سألته عن سرها : « نقلها لى على السجاد فنان فطرى يعمل فى مدينة فوه بكفر الشيخ ». خلال زيارتى للمرسم كنت أبحث عن إجابة لسؤالى : لماذا يخوض فنان له تجربة فنية عريضة مغامرة كتلك التى خاضها بهجورى فى معرضه الأخير، فمن النادر أن يخصص الفنان أكثر من 70 بالمائة من لوحات معرضه لشخصية واحدة، فما بالك إذا كانت تلك الشخصية مطربة فى شهرة “ أم كلثوم “ وحضورها الذى لا يزال متألقا فى الذاكرة الجمعية للشعب المصرى . البهجورى فى المعرض وضع جمهوره أمام تحد جديد، فقد ذكر فى مواد الدعاية أنه رسم صوت أم كلثوم وليس جسدها، فهو يؤمن بأن فن الرسم يصبح متألقا عندما يختار الفنان الصوت ويعترف : لا أرسم أم كلثوم ولكن صوتها، وهو فى فترة مهمة من تاريخ مصر الحديث، فالصوت يسحر الأذن قبل العين التى تتوهج بالعاطفة والحب والتشكيل". الزائر للمعرض لفت نظره أن الفنان رسم إلى جانب تركيزه على شخصية “ كوكب الشرق “ مجتمعا بالكامل كان حريصا على التعامل مع حفل أم كلثوم الشهرى كطقس اجتماعى غنى بالتفاصيل، لذلك بدت أم كلثوم فى اللوحة وكأنها “ أيقونة “ تدل على عصر كامل بدا للفنان وللناظر إلى لوحاته وكأنه إلى زوال “. حين قلت لبهجورى هذه الفكرة قال لى “ إن ما فهمته صحيح، فالمعرض مواجهة بصرية مع ذاكرة تتآكل “ فمصر الآن مريضة بالزهايمر، ولعل معرضى ينعش ذاكرتها". بهجورى بدأ حياته رساما للكاريكاتير فى مؤسسة روزاليوسف نهاية الخمسينيات إلى جوار جيل من عمالقة فن الكاريكاتير تقدمهم صلاح جاهين وأحمد حجازى وبهجت عثمان وزهدى العدوى ومحيى اللباد ونبيل تاج وصلاح الليثى، وهؤلاء جميعا اعتبروا فن الكاريكاتير سلاحا فى معركة التغيير، فانحازوا إلى قيم وأفكار تقدمية بالمعنيين الاجتماعى والسياسى، لذلك رفعوا الكثير من شعارات ثورة يوليو وتحالفوا معها إلى جانب أنهم كانوا من أنصار حركات التحرر الوطنى، وفى الوقت نفسه من أنصار تحرر المرأة المصرية التى نالت حقوقها السياسية مع عهد الثورة . وعلى هذه الخلفية يقف جورج البهجورى بميراث من العمل يرى فى أم كلثوم تجسيدا لنضالات المرأة المصرية فهى الفلاحة التى اخترقت بموهبتها حواجز الطبقات الغنية وعصور الملكية لتنتهى إلى لحظة صادقة قادتها - مثل جيل “ روز اليوسف “ - للتعبير عن شعارات الثورة “ ولكن من خلال الفن “. ومع نهاية زمن “ الشعارات “ وبدء زمن يسميه غالى شكرى “ زمن الثورة المضادة “ قاصدا سنوات السبعينيات فى القرن الماضى، خرج البهجورى مع الكثير من فنانى وكتاب جيله من مصر، ولكنه اختار السفر إلى فرنسا قبل أن يعود ليكثف نشاطه كمصور، وكرسام كاريكاتيرى بداخله طاقة جبارة للعمل وتعويض سنوات الغياب التى يربطها البهجورى بصوت أم كلثوم قائلا :" فى الغربة وبعد التجوال فى الشوارع كنت أعود إلى مرسمى المتواضع ولا أجد إلا صوت أم كلثوم فى انتظارى يأتى من أسطوانات «الكاسيت». قلت له : وماذا عن صوت أديث بياف التى يرى البعض أنها أم كلثوم فرنسا؟ فقال “ بياف عظيمة ولا شك، لكن كنت أحب فيها طريقة ارتباط الشعب الفرنسى بها وهى طريقة تشبه ارتباطنا الأمومى بصوت أم كلثوم “. على مستوى التقنية فى المعرض واصل بهجورى العمل بطريقة بابلو بيكاسو الأميل إلى التكعيبية وهو يقر بذلك قائلا : أرسم بفيض من مشاعرى ربما لأن نشأتى كطفل يتيم جعلتنى أفيض بهذا الشجن تجاه “ الست “. المدهش بالنسبة لى أن بهجورى اعترف خلال حوارى معه أنه فى سنوات شبابه تمرد على حالة الإعجاب العام بأم كلثوم ورسمه لها لوحات كاريكاتورية أغضبتها جدا، وعن تلك الحادثة يقول: “كل رسامى مجلة صباح الخير كانوا يعرفون أن الفنان الراحل بهجت عثمان يهوى تقليد أصوات المشاهير، ويقوم بتدبير مقالب لزملائه الرسامين على التليفون بانتحال شخصيات المعجبين، وحدث مرة أننى تلقيت اتصالا تليفونيا من شخص ادعى أنه الموسيقار محمد عبد الوهاب، فعاملته بعنف وغلظة لأنى تصورت أن بهجت انتحل شخصيته، غير أن بهجت كان بريئا، فالمتحدث على الخط الثانى كان عبد الوهاب بالفعل، ونقل لى بعد أن اعتذرت له غضب أم كلثوم من رسمة كاريكاتورية صورت فيها أحد مستمعيها وهو ينام، لأنى كنت ضد طريقتها فى الغناء التى تعيد فيها وتكرر المقاطع بطريقة كنت أراها آنذاك مملة، أما اليوم فهى عندى قمة “ المزاج “، المهم أن أم كلثوم رأت أن الكاريكاتير جارح لها وظلت غاضبة منى إلى أن التقيت بها مصادفة فى فندق شيراتون، وكنت بصحبة الفنان جمال كامل فقالت لى “ يا جورج متى تتوقف عن الشغب والشقاوة “ فتأثرت وقلت لها بدافع الحرج “ أنا أتعلم الشقاوة فقط وأنا أستمع لك “ ثم سعيت لاسترضائها بعد ذلك بلوحة ظهرت على غلاف مجلة “صباح الخير “، وتمنى محرر الفن فى المجلة مفيد فوزى لو كانت لوحتى غلافا لأسطوانة جديدة تعمل على إنجازها، وسعى إلى تحقيق تلك الأمنية لكنها لم تتحقق بسبب تعنت شركة الإنتاج التى لم تفهم اللوحة" . الآن وبعد مضى أكثر من 40 عاما يتذكر بهجورى تلك الوقائع بنبرة “ شجن “ انعكست على المعرض الذى تبدو فكرة الحنين مركزية فى لوحاته، وكانت كذلك فى الحديث الذى دار بيننا حين سألت البهجورى فقال : “ كنت أسمع أم كلثوم فأشعر بارتياح الآن أرسمها وأشعر بارتياح أكبر، فمع كل ضربة فرشاة أستدعى عشرات الصور التى تمثل لى مصر التى لا أريدها أن تفنى، وأريد بعثها على طريقتى من جديد، بعد أن حدثت تغييرات تريد إضاعة هويتها، ربما أفضل أن أعتبر صورة أم كلثوم التى رسمتها قبل المعرض فى 40 لوحة بيعت منها 30 لوحة هى أيقونتى التى لا أريد أن أفقدها وهى أيضا تميمة روحى “. فى المعرض لم يكتف بهجورى برسم أم كلثوم وإنما راح يرسم جمهورها وطريقة جلسته وأيضا أعضاء فرقتها الغنائية، خصوصا عازف العود والملحن الشهير محمد القصبجى يقول بهجورى : “ ارتبطت بصداقة مع غالبية أعضاء فرقتها وكانوا كلهم يتحدثون عنها مثل “ ملكة “ بينما كانوا هم أفراد الحاشية، وراقت لى تلك الفكرة وسعيت إلى تحقيقها فى لوحاتى التى أرسمها فى كل مرة بإحساس مختلف “.