جمال مجاهد - بعد 33 سنة قضاها في سدّة الحكم وقّع الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي يوصف بأكثر الزعماء العرب ذكاء ودهاء ومراوغة، على المبادرة الخليجية لنقل السلطة والآلية التنفيذية لها في العاصمة السعودية الرياض في حدث تاريخي بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية وأمين عام مجلس التعاون الخليجي الدكتور عبد اللطيف الزيّاني ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن جمال بن عمر وقادة حزب المؤتمر الشعبي العام «الحاكم» وأحزاب المعارضة الرئيسية المنضوية في تكتّل اللقاء المشترك. ولم يبدد التوقيع والاتفاق بين السلطة والمعارضة مخاوف اليمنيين من تعثّر تنفيذ المبادرة وتفجّر الأوضاع العسكرية والأمنية من جديد، وتصاعد الأزمة المستمرة منذ أكثر من تسعة أشهر، في ظل شكوك حول جدية الرئيس صالح- الذي سبق أن رفض التوقيع على المبادرة ثلاث مرات- في نقل السلطة فعليا بشكل سلمي وآمن وديمقراطي، وفي ظل احتفاظ نجل صالح بمنصبه كقائد للحرس الجمهوري والقوات الخاصة واحتفاظ أبناء شقيق صالح بمناصبهم كقادة لقوات الأمن المركزي والأمن القومي والحرس الخاص، وبقاء صالح نفسه في موقعه كقائد أعلى للقوات المسلّحة اليمنية. وتسمح المبادرة الخليجية لصالح الذي شبّه حكم اليمن «بالرقص على رؤوس الثعابين» بالبقاء في السلطة رئيسا رسميا وشرفيا إلى حين انتخاب رئيس توافقي جديد هو نائبه «المخلص» عبد ربه منصور هادي لمدة عامين، كما تعفيه من الملاحقة القضائية هو وأعوانه بموجب تشريع خاص، وتتيح لحزبه الذي يرأسه «المؤتمر الشعبي العام» أن يبقى شريكاً أساسياً في الحياة السياسية. وبتوقيعه على المبادرة فإن صالح ضمن خروجاً مشرّفا وآمنا من السلطة وتجنّب لقب الرئيس «المخلوع» وتفادى مصير الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي الذي فرّ من بلاده أو مصير الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي يحاكم حاليا، أو مصير الزعيم الليبي العقيد القذافي الذي قتل بأيدي الثوّار، كما أن حزبه لن يحل أو يجتث. وتنص المبادرة الخليجية المؤيدة بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2014 على نقل معظم صلاحيات الرئيس صالح لنائبه وفترة انتقالية من مرحلتين سيتم في المرحلة الأولى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة خلال فترة لا تتجاوز 90 يوما من تاريخ بدء نفاذ الاتفاقية بمرشح توافقي هو نائب الرئيس، وتشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة المعارضة بقرارات توافقية، على أن يتم في المرحلة الثانية صياغة دستور جديد وعقد مؤتمر حوار وطني ومعالجة قضايا الجنوب وصعدة، وإعادة هيكلة الجيش والأمن وإصلاح النظام الانتخابي وصولاً إلى انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة. وترتكز المبادرة الخليجية على خمسة مبادئ تتمثل في أن يؤدي الحل الذي سيفضي عن الاتفاق إلى الحفاظ علي وحدة اليمن وأمنه واستقراره، وأن يلبي الاتفاق طموحات الشعب اليمني في التغيير والإصلاح، وأن يتم انتقال السلطة بطريقة سلسة وآمنة تجنب اليمن الانزلاق للفوضى والعنف ضمن توافق وطني، وأن تلتزم جميع الأطراف بإزالة عناصر التوتر سياسيا وأمنيا، وأن تلتزم جميع الأطراف بوقف كل أشكال الانتقام والمتابعة والملاحقة من خلال ضمانات وتعهّدات تعطي لهذا الغرض. وفي أول رد فعل لها على توقيع المبادرة رفضت اللجنة التنظيمية للثورة الشبابية الشعبية السلمية التوقيع ومنح صالح الحصانة، وقالت إن المبادرة لا تعني الشباب، ما يعني استمرار اعتصام الشباب في ساحات وميادين الحرية والتغيير واستمرار المظاهرات الحاشدة المطالبة بإسقاط ما تسمى «بقايا النظام» ومحاكمة صالح وأركان حكمه في إطار برنامج التصعيد الثوري، والاحتكاك مع قوات الأمن ورجال مدنيين بلباس مدني يطلق عليهم «البلاطجة» مثلما حدث بعد ساعات من التوقيع لدى اعتراض البلاطجة لمسيرة سلمية في شارع الزبيري بصنعاء أدّت إلى استشهاد ستة أشخاص وجرح 40 شخصا، تلتها اشتباكات مسلحة بين القوات الحكومية والمنشقة المؤيدة للثورة في الشوارع الرئيسية المؤدية لساحة التغيير أمام جامعة صنعاء حيث يعتصم آلاف اليمنيين المطالبين بإسقاط النظام ومحاكمته. ويقول عضو اللجنة وأحد شباب الثورة عبد الهادي العزعزي ل«الأهرام العربي» إن الشباب لا يتعاطون مع أي تسوية سياسية لا تلبي أهدافهم التي على رأسها بناء دولة مدنية حديثة. ويؤكد العزعزي أن اللجنة تعبر عن الجميع وليس عن جهة وعليها أن تقف على مسافة متساوية من كل الأطراف، بحيث لا تؤدي إلى انشقاق ساحة التغيير، وأن اللجنة ترى كمؤسسة أنها لا تتعاطى مع الاتفاقات التي قد تخل بأهداف الثورة كون الثورة في معناها الحقيقي تعني تفكيك أدوات السلطة الحاضنة والمنتجة للاستبداد، وإعادة بناء أدوات السلطة بما يضمن تحرير المواطنين كمالكين أساسيين لها. ويشير العزعزي إلى أن «الشباب خرجوا بالثورة ضد السلطة الاستبدادية وليس ضد الدولة أما الاتفاق الذي حدث فهو في حد ذاته أحد نتاجات الثورة نفسها وهو لا يعني الثورة أيضاً بل إحدي حلقاتها». أما جماعة الحوثي المتمردة في صعدة بشمال اليمن فقد أكدت رفضها للتسوية السياسية التي تمت مع النظام، والتي تعيده إلى المربع الأول الذي ثار الشعب عليه وتمنحه حصانة من الملاحقة القانونية جراء جرائمه الفظيعة بحق الشعب اليمني. واعتبرت جماعة الحوثي في بيان صادر عن مكتب القائد الميداني لهم عبد الملك الحوثي أن «أي اتفاقية مع النظام الظالم خيانة لدماء الشهداء والجرحى، واستخفافا بتضحيات الشعب اليمني وطعنة موجعة للثوار الأحرار الذين تحملوا كل أنواع المعاناة والسجن والتعذيب والقتل لأكثر من عشرة أشهر». وقال بيان الحوثي «حذرنا سابقا من خطورة هذه المبادرات التي هدفها حماية النظام وإجهاض الثورة والالتفاف عليها، وقد منحته الغطاء لارتكاب المجازر بحق المتظاهرين سلميا وبعد ذلك ها هي تعيد الشعب إلى نقطة البداية. منبهين تلك الأطراف السياسية التي استجابت للضغوط الخارجية أنها لن تكسب من هذه المبادرة شيئا، وكان الأجدر بها أن تقف مع الشعب لا ضده فالمستفيد من هذه المبادرة هو النظام الظالم وحده، وتلك الأطراف الخارجية التي تبنت المبادرة ودعمتها ودعت إليها». وتعهد الحوثيون باستمرار الثورة ضد النظام ووقوفهم إلى جانب الثوار الأحرار، ودعوا الجميع للعمل المشترك في إطار العمل السلمي حتى تتحقّق جميع مطالب الثورة وأهدافها. ويعتقد الكاتب والباحث السياسي علي ناصر البخيتي أن صالح يظهر مجددا براعته في اللعبة السياسية وينجو من الضغوط الدولية والمحلية ليس بذكائه فقط وإنما بغباء المعارضة التي أوقعها صالح في الفخ أخيرا، وسيجني فوائد من التوقيع تتمثل في تخلصه من الضغوط المحلية والدولية وإيقاف تدخل مجلس الأمن ليتفرغ لتكتيكاته المعروفة والتي سيمررها عن طريق هادي، وبقاء صالح في القصر الجمهوري رمز السلطة الحقيقي بعد عودته من واشنطن للعلاج إلى حين انتخاب رئيس جديد مهما طالت المدة ولو لأكثر من 90 يوما وهادي في منزله يدير منه توجيهات صالح ويجنبه الضغوط، وفتح أجواء ومطارات ومستشفيات العالم لصالح ليتنقل براحته ليجدد اعتراف المجتمع الدولي بشرعيته ويزيل الاعتقاد السائد بأنه مرفوض أو أن صورته تشوّهت أو أنه مطلوب للعدالة. ويرى البخيتي أن المعارضة اليمنية ستفقد ورقة الضغط الإقليمي والدولي لأن هادي سيكون في الواجهة، كما ستفقد المعارضة ورقة الضغط الشعبي واستخدام الشارع بسبب ما سيلحقه التوقيع من جدل واعتراضات واتهامات للمعارضة وخلافات على الوزارات وخصوصا عند ظهور تكتيكات صالح بعد التوقيع مما سيظهر المعارضة وكأنها لدغت من جحر مئة مرة دون أن تستفيد وبأنها تلقي لصالح طوق النجاة كلما اقتربت نهايته. ويقول البخيتي «تزكية المعارضة لهادي سيجعل من الصعوبة عليها انتقاده لاحقا أو اتهامه بالعمل بتوجيهات صالح وسيقال لها أنتم من زكاه، وسيماطل صالح لأكثر مدة ممكنة مراهنا على تغير الظروف الإقليمية والدولية المرافقة للربيع العربي وما ستتجه إليه الأمور في سوريا والدول التي سقط حكامها مستغلا بعده عن الواجهة عبر استخدام هادي ومن ثم يحدد السيناريو الذي سيسير فيه، وسيصبح شعار ارحلوا جميعا أكثر قبولا عند ظهور فشل هذا الاتفاق لكنه سيشمل هذه المرة حتى السياسيين غير الفاسدين في اللقاء المشترك». ويشير البخيتي إلى «ثغرات» سيستغلها الرئيس صالح للمراوغة المعتادة، وهي أن الفترة الانتقالية الأولى هي 90 يوما هذا هو الظاهر إلا أن الباطن هي أن هذه المدة مقرونة بفقرة أخرى وهي «حتى انتخاب رئيس جديد» بمعنى أن الرئيس سيظل رئيسا وفي القصر الجمهوري إلى حين انتخاب رئيس جديد وسيتم تطويل هذه المدة عبر المماطلة في تشكيل الحكومة وغيرها من الخلافات التي سيتم اختلاقها وكذلك عبر إثارة الخلافات داخل مكوّنات المعارضة. كما أن قرارات الحكومة ومجلس النواب بالتوافق، وهذا من أكبر الأخطاء التي ترتكبها المعارضة فلو تركت الأمور بالأغلبية لكان أفضل للمعارضة عبر كسب بعض وزراء ونواب المؤتمر للتصويت لصالح مصلحة اليمن خصوصا أن صالح قريب من النهاية والكثير يريد عدم ربط مصيره به، لكن شرط التوافق سيحرمها من تلك الميزة لأن أي وزير أو نائب يتبع سياسة المؤتمر لن يجرؤ على التصويت خارج السرب لعلمه أنه سيحرق نفسه فقط لأن رفض الآخرين كفيلاً بعرقلة القرار, والخلاصة أن شرط التوافق سيشل الحكومة ومجلس النواب. في حين سيكون هادي مشلولا لأنه لا يوجد له غطاء سياسي أو عسكري خاص به بمعزل عن صالح وحتى لو انتقل إلى دعم رأي المعارضة في بعض القضايا، فوزراء ونواب المؤتمر كفيلون بعرقلة كل شيء بسبب أن القرارات لا تصدر إلا بالتوافق, مما سيجعل هادي يتردد في ذلك لأن موقفه لن يغير في الأمر شيئا سوى إحراقه لدى حزبه. ويضيف البخيتي «سيكون من الصعوبة بمكان إعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن وفق تلك الصيغة بسبب اشتراط التوافق بين الحكومة وهادي مما يفقد هادي أي مجال للتحرّر من صالح هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى فإن أية محاولة لتغيير أو عزل أحد من قيادة الوحدات العسكرية والأمنية سيقابله اشتراط بعزل اللواء المنشق علي محسن صالح الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع ومن والاه وسيكون علي محسن وصالح مترددين معا في ترك تلك المواقع لأنهما لا يملكان غيرها كوسيلة للسلطة وحماية الثروة، إضافة إلى أن صالح لا يثق في أحد خصوصا بعد موقف محسن، ومحسن كذلك لا يثق في الشيخ حميد الأحمر أمين عام اللجنة التحضيرية للحوار الوطني «المعارضة» أو حزب التجمّع اليمني للإصلاح المعارض في أنهما سيوفران له غطاء لحمايته وحماية ممتلكاته إلى ما لا نهاية، خصوصا إذا تعرضوا لضغوط شعبية كبيرة مما قد يعيد الأمور إلى المربع الأول «عودة تحالف مصيري بين محسن وصالح بضغط من قبيلتهم ومصالحهم المشتركة». ويشبه البخيتي المبادرة الخليجية بوثيقة العهد والاتفاق التي تم توقيعها في العاصمة الأردنية عمان عام 1994 ، لتندلع بعدها الحرب بين الشمال والجنوب «سابقا» والتي انتهت بانتصار القوات الحكومية التابعة لصالح وهزيمة القوات الانفصالية التابعة لنائبه السابق علي سالم البيض. ويتساءل البخيتي «هل ستجد المبادرة طريقها إلى التنفيذ؟ وهل الرئيس حسن النية لتتورط المعارضة في هذا الفخ؟ وهل النائب هادي قوي بما فيه الكفاية حتى لا يستخدم كدمية؟ ماطل الرئيس لسبعة أشهر- وهو في الواجهة لمجرد التوقيع - فكم من الوقت سيماطل عبر هادي لتنفيذ عشرات البنود؟». ويخلص البخيتي «نحن الآن أمام حل مؤقّت- تكتيكي فقط- لأزمة قابلة للانفجار في أي لحظة ولم تنجح الثورة, فعلى الجميع البقاء في الميادين وإبقاء جذوة الثورة مشتعلة حتى تتحقق النتائج كاملة, وتكوين تكتل موازي لتكتل اللقاء المشترك من مكونات الثورة المختلفة غير الموجودة في المشترك». من جانبه يؤكد عضو اللجنة العامة »المكتب السياسي لحزب المؤتمر والزعيم القبلي الشيخ محمد ناجي الشايف على ضرورة أن يلتزم الطرفان الحكومة والمعارضة بتنفيذ آلية المبادرة الخليجية، ويسارعان إلى بناء دولة مدنية حقيقية. ويقول الشيخ الشايف يجب أن نبدأ بالمرحلة الجديدة، ونشعر الناس أننا بدأنا فعلا بالوفاق الوطني والذي على عاتقه رفع المتاريس وإيجاد الأمن وإعادة الكهرباء والغاز والحاجات الضرورية التي تهم المواطن اليمني، ونتمنى من المعارضة أن تبدي حسن العمل ونحن سنتابع ذلك إن كانوا صادقين مثلما نحن صادقون. ويعتبر الشايف أن «الرئيس على عبد الله صالح والمؤتمر الشعبي العام هما دائما منحازان إلى جانب الشعب اليمني، وإلى أن يعيش في أمن واستقرار وأمان». فيما يرى رئيس تحرير أسبوعية «الأهالي» المستقلة علي الجرادي، أن الاتفاق يعد ثمرة من ثمار الثورة وخطوة مهمة في تحقيق أول أهداف الثورة بإجبار علي عبد الله صالح على التنحي عن السلطة ونقل صلاحياته كاملة إلى نائبه عبد ربه منصور هادي. ويقول الجرادي في تصريح ل«الأهرام العربي» إن الثورة قطعت شوطا كبيرا بهذا الانتصار لكنه ليس نهائيا، وأن التوقيع كان مجرّد تحصيل حاصل لأنه نتاج للثورة وتضحياتها والقرارات الدولية المؤيدة لمطالبها. ويوضح الجرادي أن اليمن «سيشهد تحولات كبيرة بعد نقل السلطة. يكفي أن الاتفاق يضمن نقل السلطة إلى فرقاء العمل السياسي بمن فيهم الشباب بعد تضمّن الاتفاق بندا خاصا بهم يتعلق بإشراكهم بالحوار من أجل تحقيق مطالبهم». ويلفت الجرادي النظر إلى إنجاز آخر أحرزته الثورة وهو برأيه نقل السلطة إلى السياسيين وليس العسكر. فمن ضمن مكاسب الثورة تجريد صالح من صلاحيات قيادة الجيش والأمن وإعطائها للجنة مختصة برئاسة نائبه هادي، وفي المحصلة السياسية والقانونية يمكن أن نطلق على صالح الآن لقب الرئيس المخلوع. ويحذر الجرادي مما وصفها «تقلبات صالح»، ويقول «إن صالح معروف بدمويته ونقضه للعهود والمواثيق التي أبرمها طيلة 33 عاما وأتوقع أنه سيرتكب حماقات تقوده إلى حبل المشنقة». ويدعو الجرادي الثوار لأن يفخروا بأنهم ينجزون أهداف ثورتهم، ولكنّه في المقابل ينبه إلى أن الثورة لم تستكمل أهدافها بعد، وهو ما يحتم على الثوار البقاء في الساحات لتحقيق ذلك في الأيام المقبلة.