منذ حوالى ربع قرن كنت فى زيارة لأكبر مصنع للطائرات الأمريكية، وتصادف أن وفدا من كبار موظفى إحدى شركات الطيران الخليجية كان فى زيارة المصنع فى نفس التوقيت. وكان مسئول الشركة يشرح لنا مراحل تصنيع الطائرة، أو بمعنى أدق «تجميعها»!! فما فهمته من المسئول أن الطائرة وإن كانت تحمل «الجنسية» الأمريكية، إن جاز لى التعبير، إلا أنها فى الواقع خلاصة تعاون دولى «متعدد الجنسيات»، حيث تشارك أكثر من 34 شركة من دول آسيا وأوروبا فى تصنيع الطائرة، فالمحرك تورده شركة من آسيا، والأثاث من أوروبا.. وهكذا! وفوجئت بأعضاء الوفد الخليجى العربى يصفقون ويهللون ويكبرون، والسيدات يزغردن فرحا وإعجابا بهذه المعجزة التكنولوجية، ووجدت نفسى مغردا خارج السرب، فقد انتابتنى مشاعر متضاربة، هى خليط من الحزن والأسى والإحباط وعدم الرضا الذى يصل إلى حد السخط على أحوالنا الاقتصادية العربية، التى قد تسر عدوا، لكنها بالتأكيد لا تسر حبيبا. فذلك المصنع «الأمريكى» مجازا، هو نموذج حى وعملى على تحقيق السوق المشتركة بين مجموعة من الدول لا يجمع بينها أى تجانس، لا من حيث اللغة أو اللون أو العرق أو التاريخ والعادات والتقاليد، أو حتى المصير المشترك، كما أنها متباعدة مكانيا بعد المشرق والمغرب عن بعضها البعض وهذه الدول برغم اختلاف لغاتها ولهجاتها فإنها تحدثت مع بعضها بلغة واحدة يفهمها الجميع، وهى لغة المصالح المشتركة. فالولايات المتحدة بجلالة قدرها، لم تكابر وتصر على إنتاج طائراتها من الألف إلى الياء، على اعتبار أن اللجوء لإنتاج شركات ودول أخرى هو عار وشنار على الصناعة الأمريكية العريقة، بل تعاملت بواقعية وبمسئولية فتعاونت مع باقى الدول من أجل رفاهية العالم، ومن أجل صناعة أصبحت تباهى بها الأمم. أما نحن العرب، فعلى الرغم من مرور أكثر من عدة عقود على إعلان السوق العربية المشتركة، فإنها مازالت حبرا على ورق، وعناصر التباعد العربى تزداد يوما بعد يوم، حتى أصبح مجرد اجتماع زعماء العرب على مائدة واحدة من رابع المستحيلات. لقد صدعونا وصدعوا رءوس كل الأجيال العربية وقاموا بحشو المناهج الدراسية ورءوس التلاميذ من المحيط للخليج بدروس ومواعظ عن أهمية الوحدة العربية، والتى تتوافر مقوماتها، كما لم تتوافر فى أى مكان آخر بالعالم وحفظنا جميعا عن ظهر قلب، منذ نعومة أظافرنا، كيف أن العرب تجمعهم لغة واحدة، ومكان واحد ومصير مشترك وتاريخ واحد، بل وعادات وتقاليد واحدة، وأن الوحدة العربية يمكن أن تتحقق فى غمضة عين، بل حتى قبل أن يرتد إليك طرفك. لكننا اكتشفنا أنه برغم حضور وتوافر كل هذه المقومات، فإن أهم مقوم على الإطلاق غائب، وهو الإرادة السياسية. والحقيقة أن الوحدة العربية الشاملة «كوم»، والسوق العربية المشتركة وحدها «كوم ثانى»، فهذه السوق التى لم تتحقق أكبر دليل على تضارب الرؤى والسياسات والأهداف، وفوق كل هذا وذاك غياب التخطيط والرؤية المستقبلية. فأى دولة عربية لا تبدأ صناعاتها عل سبيل المثال، من حيث انتهى الآخرون، بل تبدأ من حيث بدأ الآخرون، كما أنها لا تخطط لإقامة صناعات تتمتع بمزايا نسبية حسب الموارد المتوافرة والتى تختلف من دولة إلى أخرى. فمن البديهى مثلا أن تقام صناعات تعتمد على الاستهلاك الكثيف للطاقة فى الدول التى لديها احتياطيات كبيرة من البترول والغاز كصناعة الأسمنت والبتروكيماويات وغيرها، لكننا للأسف نجد أن كل الدول العربية بلا استثناء تسعى إلى إقامة كل الصناعات مهما كانت إمكاناتها المتوافرة، ودون أن تولى أى اعتبار لمبدأ التكامل الصناعى بين الدول العربية. كما أنه على الرغم من تنوع الثروات العربية الطبيعية والبشرية، فإن الدول العربية لم تنجح على مدى عقود طويلة وحتى الآن فى التوصل للخلطة السحرية للتكامل فيما بينها، فالكل يقيم نفس الصناعات، والكل يتنافس على نفس الأسواق، ولم ينجح اجتماع عربى مشترك واحد فى تحقيق ألف باء التفاهم، ولا أقول التكامل بين الدول العربية..بل والأعجب من ذلك والأغرب أن بعض الدول العربية تتخذ إجراءات جمركية وتدابير حمائية مشددة ضد صادرات الدول العربية الشقيقة، فى الوقت الذى قد تتساهل فيه مع باقى دول العالم. كنا نتمنى أن يبنى العرب على ما تحقق فى القمة الاقتصادية العربية الأولى التى عقدت بالكويت، والقمة الاقتصادية الثانية التى عقدت فى شرم الشيخ، لكن من الواضح أن التعاون العربى المشترك أصبح فى آخر قائمة الاهتمامات العربية، لذلك كله أصبحت «السوق» العربية المشتركة «سوء مشتركة» بلهجة المصريين العامية، لكل الدول العربية من المحيط إلى الخليج.