أما و قد سطرتُ بقلمي، وفى ذات المكان منذ أسابيع عدة مقالاً ناقداً لفيلمٍ أهان صانعوه مهنةَ الطبِ وأصحابَها، وتعرضوا لتفاصيلِها المعقدة بجهلٍ شديد مما أفرز مِسخاً سينيمائياً يندى له الجبين، فقد أتيت إليكم اليوم وفى جعبتي عملاً فنياً وطنياً رائعاً، ألا وهو فيلم (الممر) و الذي أودّ أن أعرِض لما فيه من تفاصيل تدعو إلى التقدير و الفخر و الاعتزاز. فهذا الفيلم وإن بدا من الوهلة الأولى أنه من أفلام «الأكشن» الحربية، فإنه فى الواقع يتعدى هذه الفكرة بكثير، فهو عمل فني أخذ على عاتقِه - وبصدق - مهمةً وطنيةً لمحو أُميَّةِ الشباب التاريخية والسياسية، خصوصا للأجيال التي لم تعهد حروبَ مصر التاريخية فى العصر الحديث. ومن المُثير أنه لم يقدم لنا نصرَ أكتوبر فى أية مرحلة من مراحل القصة، ولو بالتلميح، ولكنه استخرج من هزيمة يونيو 1967 قصة إنسانية وطنيه ملهمة، وجعل من الهزيمةِ نموذجاً للنصر فى إبداع قصصي وسينمائي قلّما عهدناه فى الآونة الأخيرة من تاريخ السينما المصرية. وقد ألفيتُ كلاً من المخرج الرائع شريف عرفة، والسيناريست المتميز أمير طعيمة متكاتفين بكل الحِنكةِ والإبداع، ليأخذا مشاهدي الفيلم إلى تفاصيل تلك التضحيات التي قدمها أبناؤنا من أبطال الجيش المصرى فى تلك الفترة الصعبة من تاريخ هذا الوطن. لم يضع أيٌ من أمير أو شريف - مع حفظ الألقاب - رأسه فى الرمال و لم يُجمِّلا التاريخ بل أخذا المشاهد إلى ما بين حبات رمال سيناء، لنجد أنفسَنا فى الخنادق التي اكتظت بجثث الشهداء من خيرة شبابنا، وقد أمطرتهم الطائرات الإسرائيلية برسائل الموت أثناء انسحابهم المكشوف من سيناء، وكان هذا من المشاهد التي ارتعدت لها جنبات قلبي وأبكتني بشدة فى صالة العرض تقديراً وإجلالاً لأرواحِ رجالٍ ذهبت إلى خالقها فداءً للوطن، ولكي نعيش نحن و ننعم بالعزة والحرية ونحتفل دونهم بنصرٍ صنعوه هم بدمائهم. وكما رأينا كيف تم حرقُ سلاحِنا الجوى، بينما هو رابض على الأرض قبل أن ينطلق، فقد تعرض صانعو الفيلم بجرأة للسلبيات التي أدت لتلك الهزيمة فى رسالة مفادها أن التاريخ لا يرحم من لم يتعلم منه دروسه. وانتقل الفيلم ليرينا كيف كانت ردود فعل الشعب المصري ابن النكتة الصابر والضاحك الباكي فى ذات الوقت، وكيف تعامل مع هزيمته النكراء والتي نعلم كيف تحولت بعد سنوات إلى نصر مبين. ومن أجمل ما لاحظت هذا الذكاء الشديد فى تقديم تشكيلة من الجنود، أتوا من النوبة والصعيد والدلتا، وإن اختلفت بيئاتهم وطباعهم ومشاكلهم، لكنهم اجتمعوا على مبدأ واحد، وعقيدة قتالية واحدة، وعزيمة لا تنكسر. ولا أرى هذا الفيلم - فى حقيقة الأمر - إلا كنموذج سينمائي وطني ذكي ويمكن أن يكون مادة تُدَرّس فى معاهد السينما لعقود قادمة، فسيجد من يشاهده كيف أظهر وبصدق الدور الوطني العظيم الذي لعبه الأبطال من أبناء القبائل السيناوية أثناء حرب الاستنزاف من تعاون مع الجيش المصرى ومواجهات مباشرة مع العدو الإسرائيلي، مما يرد إلى الأعناق كل المحاولات الخبيثة لبث الفُرقة وتدنيس التاريخ المُشرِّف لأبناء سيناء. وإذا ما انتقلت إلى الأداء الرائع لأبطال الفيلم مثل شريف منير وأحمد رزق وأحمد فلوكس وإياد نصار وأحمد صلاح حسنى وأمير صلاح الدين وإنعام سالوسة وأسماء أبو اليزيد ومحمد فراج ومحمد الشرنوبى وألحان المهدى ومحمد جمعة ومحمد حافظ وكريم العميرى، فلن تكفي الصفحات ولن توفيهم الكلمات حقهم، ولكن انظروا إلى ذلك الفنان الموهوب أحمد عز والذي أقنعني أنه فعلاً رائد الصاعقة المصري الأصيل الشهيرإبراهيم الرفاعي الذي كان قائداً للمجموعة “39 قتال” وكان مصدرَ رعبٍ للعدو، والذي استطاع أن يخرج من بين أشلاء الهزيمة، ليصنع قواعد النصر بعقيدة جيش عظيم جاء من أعماق التاريخ ولم يكن وليدَ يومٍ وليلة،فالجيش المصري هو من أقدم جيوش العالم أجمع وأكثرها عراقة ولم تتغير عقيدته يوماً ما. وكذلك شاهدنا الدور العظيم للمرأة المصرية مُمثلاً فى الفنانة القديرة هند صبري زوجة الضابط والأم التى ساندت وكافحت وأدركت دورها الكبير بعيداً عن أرض المعركة وهو ليس ببعيد. وبالحنكة التصويرية وتقنيات الصوت وبميزانية تعدت المائة مليون جنيه، وبين أحضان النغمات الراقية للموسيقار عمر خيرت، أتى إلينا هذا العمل الفني الوطني، بينما تخوض قواتنا المسلحة حرباً ضروساً ضد الإرهاب على أرض سيناء الحبيبة وفى كل ربوع المحروسة ليخبرنا، ويذكرنا بالتضحيات التى قدمها جيشُنا جيلاً بعد جيل والتي ستستمر ما استمرت هذه الحياة. سأترككم الآن وأعود لأشاهد (الممر) مراتٍ ومرات وأترحم - ما حييت - على أرواح الشهداء. تحيا مصر تحيا مصر تحيا مصر