بدأ عددنا بأكثر من ستين والآن لم يتبق منا سوى نفر قليل لا يتجاوز الستة أوقافنا لا تزال قائمة حتى اليوم ولكنها تشتت في أكثر من مكان بالمدينةالمنورة
فى وجوههم حفر الزمان خطوطا حفظت التاريخ، كما حفظته الكتب والمراجع والمخطوطات، وجوه تشع صبراً وهدوءا تضمخت مسامها بعطور الورد والمسك والعنبر، اصطفاهم الله ليهاجروا من بلاد الحبشة ويتشرفوا بخدمة بيت رسول الله ومسجده بالمدينةالمنورة، ليعيشوا قصة عشق وصفاء، هؤلاء هم آغوات المدينةالمنورة لهم مكانة خاصة داخل المسجد النبوى الشريف، فيجلسون فى دكتهم وهى (دكة الأغوات) خلف حجرة السيدة فاطمة رضى الله عنها، يتميزون بهدوئهم وقلة كلامهم يخدمون الحجرة النبوية بشغف، يغسلونها بماء الورد ويطيبونها بالمسك والعنبر، وعن لباسهم وصفهم الرحالة ابن بطوطة قائلا: إن الأغوات على هيئات حسان وصور نضاف وملابس ضراف وكبيرهم يعرف بشيخ الحرم، وهو فى هيئة الأمراء الكبار .. الأهرام العربى اقتربت من عالمهم، من خلال الحوار مع محمد آدم عمر شقيق شيخ الأغوات الراحل سعيد آدم عمر، لتتعرف على عاداتهم وتقاليدهم ولتطرح الكثير من الأسئلة التى تجول بخاطر القارئ.
ما المقصود بالأغا أو الأغوات؟ «الأغوات» رجال أفاضل نذروا أنفسهم لخدمة الحرمين في مكةوالمدينة، وكلمة الأغوات تطلق على الخصيان الذين يقومون بوظائف خاصة في الحرمين الشريفين، وكانت لهم حاراتهم الخاصة، ومن الناحية اللغوية تستعمل كلمة (آغا) في اللغة الكردية والتركية والفارسية بمعنى رئيس أو سيد، وفي الدولة العثمانية كانت تطلق على (السيد) كما تطلق على رئيس الخدم أو المشرف على شئون المنزل، ولعل الحجازيين أخذوا هذه الكلمة من الأتراك وأطلقوها على الأغوات ممن قضوا حياتهم في خدمة الحرمين الشريفين.
هناك شائعات عن الأغوات بأن آباءهم هم من قاموا بإخصائهم وإرسالهم للحرمين للخدمة فما صحة ذلك؟ الحقيقة التى غابت عن الكثيرين، وهى أنهم ضحية الغزو الإيطالى للحبشة، حيث عمد الغزاة إلى إخصاء الأطفال حتى يقطعوا نسلنا ولانتكاثر، وبرغم ما عرف من خصى وزهد، فإنهم يتزوجون النساء كبقية البشر، وأن نظام الأغوات قد تم إيقافه منذ سنوات بفتوى من الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، مفتى عام المملكة فى ذلك الوقت، بعدما بلغه أن آباءنا قاموا بعملية الخصى للأغوات ليرسلوهم إلى الحرمين الشريفين للخدمة، فقال: إن العمل بدعة ولا أصل له فى الشرع، فبعث ببرقية للملك فهد رحمه الله بذلك، فأمر بإيقاف قبولهم، وأشار إلى أن مهمتهم بالمسجد النبوى قاصرة على تنظيف الحجرة النبوية، وفتح وإغلاق منبر رسول الله وتنظيفه صباح كل يوم جمعة، كما أنهم يحتفظون بمفتاح الحجرة النبوية حتى الآن.
كم عدد أغوات المدينة فى السابق وكم عددهم الآن ومتى كانت بدايتهم؟ كان عددهم فى السابق يتجاوز الستين أغا، أما الآن فلم يتبق منهم سوى نفر قليل لا يتجاوز الستة، فبعضهم بات ملازما للفراش بسبب ظروفه الصحية، وانحصرت وظيفتهم في المسجد النبوي على عدد من المهام، وكانت لهم حارة قديما تدعى (حي الأغوات) تقع شرق المسجد النبوي الشريف وغرب البقيع، والتى أزيلت فى التوسعة، و أدركتهم أنا قبل نحو 50 عاما، حين كانوا يجلسون من طرف ما يسمى ب (الصُّفة) (دكة الأغوات)، وكانت هيبتهم تتضح في وقوفهم صفا واحدا بزيهم المتميز، الذي يتمثل في (دقلة) بيضاء أنيقة، ويضع بعضهم حزاما كشميريا وشال صوف على الكتف، إضافة إلى (العمة) المدورة على الرأس، فيما يتكئ بعضهم على عكاز من نوع مخصوص، وأن معظم الأغوات كانوا من الحبشة والسودان، وشيخهم في تلك الفترة الشيخ عبدالسلام وكان يسكن (الرستمية)، وهي موقع متميز في حي الأغوات، وكان عبد السلام طويل القامة، وله نائب توفي كذلك اسمه الشيخ (جاه الله)، وناب عنه شقيقى الشيخ «سعيد آدم» الذي توفى، وكان ويميزه عن البقية، ارتداؤه (عمة المشيخة) والآن شيخهم هو الحاج نورى أطال الله فى عمره .
أما بدايتهم فهى ترجع لمئات السنين لكنها لم تحدد، فيعود تاريخ الأغوات إلى عهد معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه فهو يعد أول من وضع خدما للكعبة المشرفة من العبيد، ويعد يزيد بن معاوية أول من اتخذ الخصيان لخدمة الكعبة، وأبو جعفر المنصور هو أول من رتب الأغوات فى المسجد الحرام، أما أغوات الحرم النبوى الشريف فيعود تاريخهم إلى الناصر صلاح الدين، فهو أول من رتب خصياناً لخدمة المسجد النبوى الشريف، وقد ورد في تراجم كل من نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، أنهما خصصا للمسجد النبوي عددا من هؤلاء الخدم، وجعلوهم منقطعين للعمل فيه، وصار هؤلاء الأغوات لازمة من لوازم المسجد النبوي لقرون كثيرة، وصارت لهم مكانة متميزة، بسبب ارتباطهم بهذا المكان المتميز، ووضع لهم نظاما دقيقا، وصنفوا في طبقات، وعُين لهم رئيس، وأُوقفت عليهم الأوقاف، وخصصت لهم عائدات صناديق النذور أو معظمها، كما كانت تُرسل إليهم الهدايا، وكان ينظر إليهم دائما على أنهم من العبَّاد الزُّهَّاد الصالحين.
حدثنا عن وظائفهم فى السابق وحاليا؟ من المهام القديمة للأغوات أن ينام أحدهم وسط الحرم في الليل في (الحصوة الأولى) لحراسة الحرم النبوي الشريف في الصيف، أما في الشتاء فينام في مكان يسمى (دكة الصفة). وكان أغا آخر من أهل المدينة ينام في الليل يسمى (القيّوم)، حيث يمكث طوال الليل في الحرم، وحين يأتي المؤذن من باب النساء، ليؤذن لصلاة الصبح يقول: (لا إله إلا الله) ثلاث مرات من دون أن يطرق الباب ثم يجيبه من الداخل (القيّوم) بقوله: (محمد رسول الله) فيفتح له ما يسمى ب (الخوخة) وهي عبارة عن مربع صغير وسط باب النساء الكبير، فيؤذن ثم يقوم الأغوات حينها بالدوران على جميع أبواب المسجد النبوي، ويفتحونها للمصلين.
ويستخدم الأغوات مفتاحا غليظا لا يستطيع أي شخص حمله، وإذا وضعه في وسط الباب لا يستطيع لفه إلا باستخدام مفتاح آخر، يضعه في المفتاح الأول فيقوم بلفه ثم يفتح، وحين تطفأ الكهرباء في المسجد النبوي الشريف وعادة ما تنقطع حتى عن الأحياء المجاورة للمسجد، كان الأغوات يقومون بإسراج ما يسمى ب (الأتاريك) ويضعونها في أماكن معينة، مثل المكبرية ودكة الصفة من الحرم القديم. ومن مهامهم القديمة أيضا تبخير المسجد النبوي قبل صلاة الجمعة، وأحيانا يضعون تلك المباخر عند باب جبريل، كما كانوا يكنسون الحجرة النبوية وينظفونها كل ليلة جمعة (قبل أن تلغى تلك المهام مع شركات النظافة المتخصصة وغيرها من وظائف استجدت اليوم في المسجد النبوي)، ومن عادات الأغوات في المدينةالمنورة قديما ما أكسبهم احترام الناس لهم بحكم خدمتهم للمسجد النبوي، أنهم كانوا ينزلون القناديل الموجودة في الحرم والتي توضع فيها شموع مرة في الشهر، فيستخدمون لذلك عصيا فيها حرف (u) لينظفها عمال النظافة ثم يعيدونها إلى مكانها، وإذا انتهت صلاة العشاء في الحرم، يبدأ الناس في الخروج وعادة ما يبقى بعض النسوة جالسات، فيأتي دورهم في إخراج النساء بطريقة مؤدبة جدا، وكانوا يقومون كذلك بتنظيف المسجد في حال وقوع أي نجاسة من قبل الأطفال، حيث يأتون بما يسمى ب (الطشت) وإبريق كبير مصنوع من النحاس، وإسفنجة فيغسلون مكان النجاسة، أما عن وظائفهم حاليا فانحصرت في بعض المهام من بينها، إذا جاء رؤساء أو ضيوف من بعض الدول لزيارة المسجد النبوي الشريف مع الرئاسة العامة لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوى، يحملون المباخر ويضعون أجود أنواع العود لتبخير الضيوف، وكان من مهامهم لفترة قريبة، فتح منبر المسجد النبوي للخطيب، وكان لديهم مفتاح المنبر، ويضعون العصا عند المنبر ليستخدمها الخطيب حين يصعد المنبر، تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين يصعد إلى خطبة الجمعة.
هل هناك أوقاف للأغوات موجودة حتى الآن وأماكنها؟ أما أوقاف الأغوات فلا تزال قائمة حتى اليوم، ولكنها تشتت في أكثر من مكان، في كل من قباء، والعوالي والحرة الشرقية، ولنا وكيل شرعي يقوم بمراجعة معاملاتنا في الدوائر الحكومية.
ما الأعمال التي كانوا يقومون بها في الوقت الحالى؟ فى الوقت الحالى الأغا مسئول عن مباشرة خدمة ضيوف الحكومة في الحرم، فأي رئيس دولة يزور المسجد النبوى يكون الأغا في استقباله، حيث يقدم له كأس ماء زمزم، ويفتح له باب الغرفة النبوية.
هل يحمل الأغوات الجنسية السعودية؟ وهل يتقاضون رواتب شهرية؟ أكرمنا الله ثم ولاة الأمر بالجنسية السعودية، نعم هناك رواتب شهرية للآغوات هل تجتمعون مع بعضكم؟ وهل تسافرون إلى خارج المملكة؟ نعم هناك اجتماعات وزيارات متبادلة بيننا، خصوصا في المناسبات وليالي رمضان والأعياد، ونسافر دائما إلى خارج المملكة لزيارة أهلنا وأقربائنا في الحبشة.
ماذا عن زواج الأغوات؟ في الماضي كان الأغوات يشترون الجواري ويملّكون عليهن، وبعد إلغاء الإماء بدأوا يتزوجون، ليس لأجل العلاقات المعروفة أو المتعة الزوجية، وإنما من أجل أن ترعى شئونه إذا مرض، ومن أجل خدمته ورعاية شئونه وغسله عند الوفاة، وغالباً ما يقول عند كتابة العقد: قد تزوجتها مكحلة بدون مرود (فهي لديها مكحلة، أما هو فلديه مرود ولكنه معطل). وغالباً ما يحرصون على الزواج من أمهات الأيتام طمعاً في نيل ثوابهم، وتفهماً لحرص الزوجة على وجود الأطفال، ويتزوج الأغا أحيانا من خارج المملكة ويحضر زوجته معه، وفي حال كان لها أولاد من زواج سابق يحضرون إلى المملكة بتأشيرة خدم ويربيهم الأغا وكأنهم أولاده، أما فى الوقت الحالى فلا يوجد هذا الكلام. على أية حال بقي أن أشير إلى أن "أغوات الحرم" بدأوا بالانقراض، وبدأت حاراتهم بالزوال لسبب بديهي هو.. عدم قدرتهم على الإنجاب، بالإضافة إلى منع الإخصاء منذ فترة طويلة!!