لا يا عزيزى القارئ، فإنك لم تخطيء وقمت بالقراءة فى عدد سابق، بل إن ما بين يديك ما هو إلا الإصدار الأخير من «الأهرام العربي». صحيحٌ أننى كتبت مقالاً سابقاً بعنوان (عندما تنحرف العقول) تطرقت فيه للحوار عن أهمية العقل السليم والفكر القويم، لكى تستقيم أمور الحياة على كل المستويات، واستعرضت أشكالاً لانحراف الفكر ما بين تشويه للدين القويم واستغلاله فى الإرهاب والفساد السياسى، وعلى الطرف الآخر اليمين المتطرف بكل ما يحمل من عنصرية وتقسيم للبشر بُناءً على العرق واللون والدين، لكننى وبعد ذلك المقال وجدت نفسى لا أستطيع أن أذهب بقلمى بعيداً عن وصف تلك الحالات التى تغيب فيها العقول تماماً، وهذه أسوأ بكثير من تلك التى تنحرف فيها العقول وتحيد عن الصواب، فقد تكون هناك فرصةٌ ما لتقويم تلك العقول المنحرفة باللين والموعظة أو حتى بفرض القوة. ولكن ما حالنا مع هؤلاء الذين غابت عقولهم تماماً، فأتوا ما أتوا من أفعال وأقوال أبعد ما تكون عن الحكمة والفعل الحسن. ولا أقصد هنا بغياب العقل تلك الحالات المرضية التى يتعارف عليها العامة على أنها (جنون) ولكننى أتحدث عن تلك الحالات التى أنحرف فيها العقل بشدة حتى أصبح وجوده مثل عدمه. وهؤلاء عادةً هم الذين انطفأت فى قلوبهم مشاعل الإيمان بالله والثقة فيما أتى فى كتاب الله وسنة نبيه. ألم نقرأ فى سورة البقرة : {كذلك يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} «البقرة : 242» فالتصرف العاقل الحكيم هو نابع من إدراك العبد لآيات الله فى الكون ومن ثَمَّ إدراكه اليقينى بوجود الخالق. والعلاقة متينة بين رجاحة العقل وطهارة القلب، فنقرأ فى سورة الحج: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ ولكن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} «الحج: 46» ولعلنا بهذا الهدى القرآنى ندرك لماذا نجد دائماً أن أصحاب العقول الغائبة هم أصحاب قلوب عمياء فلا يأتوننا إلا بالشر والخبث والتآمر، وهو يقومون بآثامهم كما لو كانوا معدومى الحواس. وقد وصفهم الخالق سبحانه وتعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} «البقرة: 171» أما أصحاب العقول الحاضرة فتمكنهم عقولهم ورجاحة فكرهم من إدراك الوجود الإلهى وأن ثوابه أكيد كما أن عقابه آت، لهذا نجدهم فى الدنيا على صراطٍ مستقيم. قال تعالى: { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } «العنكبوت: 43» وليس هناك أسوأ من أن يتسلط أصحاب العقول الغائبة على غيرهم من البشر، فتنقلب بأفعالهم حياة البشر بؤساً وعذاباً، وتطلق قلوبهم المريضة أمواجاً من الشر تشيع فى الأرض فساداً. إذاً فهذه رسالتى تعلمتها بين دروب الحياة ورسمت الآيات المباركات من كتاب الله حروفها بين جنبات قلبي، أضعها خالصة لمن يقرأ ويعى ويدرك أنه إذا ما حافظ الإنسان على رجاحة عقله وطهارة قلبه، فله الخير فى الدنيا وما بعدها، وإن غيَّب الإنسان عقله وغاب معه الخير والصلاح وتقوى الله، فإن مآله إلى عذاب شديد. وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ «الملك: 10» فطوبى لأوطانٍ قادتها العقول الحاضرة الراجحة واحتضنتها القلوب النقية. تحيا مصر تحيا مصر تحيا مصر