لطالما كان العقلُ البشرى محيراً للبشر، ولطالما كانت تلك الكتلة من النسيج الرخو والقابعة فى غرفتها المحصنة من العظام القوية والتى أنشأها الخالق بتلك القوة، لتحمى هذا العضو المهم، لطالما ظلت مُعجزة فى أعين العلماء والمفكرين والفلاسفة. ولا يدرك الواحد منا روعة عقل الإنسان فى منظومته التشريحية والوظيفية إلا فى حالتين، أولاهما عندما نسمع عن عبقريٍ فذ فى أحد العلوم كأينشتاين وغيره من مشاهير العلماء، أو عندما نشاهد بعض الأطفال الذين يقومون بحل مسائل رياضية معقدة أو يحفظون القرآن كاملاً وهم فى سنٍ غَضة، وثانيتهما عندما نرى مريضاً قد أُصيب رأسُه فى حادثٍ أو قد أصاب عقلَه مرضٌ ما فنجد الإنسان العاقل الرزين، وقد أصدر عقله لجسده أوامر لا تخضع لأى منطق فتضطرب أفعاله وأقواله، وقد نجد جسده متشنجاً أو قد نجده فى سُباتٍ عميق. وما بين سلامة العقل ومرضه من الناحية الطبية، قد نجد بعض العقول التى - من الناحية الطبية - تبدو سليمة، ولكنها من الناحية الفكرية والحِسية والإنسانية تُعتبر مريضة، والعِلّةُ هنا هى عِلّةٌ فى الفكر و تطرف فى المفاهيم والمبادئ. ويختلف المكون الفكرى لعقل الإنسان عن ذلك فى الحيوان. فالحيوانات بكل أنواعها تُولد وقد وضع لها الخالق منظومتها الحياتية كاملةً فى عقولها فنجدها جميعاً تتصرف بطريقةٍ متشابهة، دون تعلم، وإن تم فصل الحيوان الصغير عن أبويه وتمت تربيته وحيداً، ولا أدل على هذا أفضل من الآية السادسة والخمسين من سورة هود. «إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُم ج مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ج إِنَّ رَبِّى عَلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (56). فالدواب هى الحيوانات من ذوات الأربع، والناصية هى مقدمة الرأس وتُعرف طبياً بالفص الأمامى من المخ وفيه تقبع منظومة الفكر والتصرفات. أما عقل الإنسان فيولد خاوياً ويمتلئ على مر السنوات بالتعلم، فهو نتيجة لما نقدمه له من معلومات وأفكارٌ ومعطيات يتم تخزينها ببراعة إلهية تدعو للإعجاب والانبهار. فإن امتلأ عقل الإنسان بما هو خير كان نتاجه خيراً كما نرى فى الأنبياء والصالحين والأخيار من العلماء والأطباء والمهندسين والعسكريين وغيرهم. وإن امتلأ عقل الإنسان بالشر كان نتاجه شراً فيما يسمى (التطرف الفكري) أو (الانحراف العقلي)، ومن هنا تتبين لنا الأهمية القصوى للتعليم فى أوطاننا فهو بحق "فن صناعة الشعوب". والتطرف الفكرى قد يكون فردياً أو جماعياً، فالفرد المتطرف فكرياً قد نجده قاتلاً أو لصاً أو مختلساً أو خائناً لوطنه. أما التطرف الفكرى الجماعى والذى نراه وبكثرة فى هذه الأيام فى أشكالٍ عديدة منها على سبيل المثال التطرف الدينى والافتراء على الله فيما أرسل إلينا من دينٍ سليم وهديٍ قويم حرفه هؤلاء ليخدموا مصالحهم الدنيوية، وعلى الجانب الآخر نجد ما يسمى باليمين المتطرف والذى أصبح ظاهرة تجتاح المجتمعات الأوروبية والغربية وتأسست من أجله أحزاب رسمية تتبنى الفكر التصنيفى للبشر بناءً على الجذور العرقية والعنصرية البغيضة، وما يصحبه ذلك من عنف جسدى ضد كل من هو من عرق مختلف، بل حروب تراق فيها الدماء وتُدفن آلاف الأجساد ضحايا لعقول انحرفت عن طريق الحق. وعليه، فإن الصراعات العالمية التى تدور رحاها فيما حولنا يمكن أن توصف فلسفياً على أنها صراع بين عقول سليمة وطيبة أنعم الله عليها بالحكمة ومقومات الخير، وعقول مريضة ومنحرفة ملأها الشيطان شراً وبُغضاً ومرضاً. ويزداد الطينُ بلةً كلما تولى أصحاب العقول المتطرفة زمامَ غيرِهم من البشر وتسلطوا على غيرهم من الشعوب بما أتاهم الله من فتنة المال وقوة السلاح، فعاثوا فى الأرض فساداً وعمت أعينهم عن مصالح شعوبهم وانطلقوا فى الأرض تحركهم رغباتهم الاستعمارية ينفقون ثروات شعوبهم لتحقيق أحلامهم المريضة. فطوبى لشعوبٍ قادها الأخيار من الناس، وتولى أمورها الأطهار من الساسة أصحاب العقول السوية والقلوب النقية. تحيا مصر تحيا مصر تحيا مصر