أوروبا الموحدة كانت فكرة فرنسية فى الخمسينيات. وأوروبا فسيفساء لغوية وثقافية ودينية، وحفنة من الحروب الأهلية، والدينية والعرقية، وسجل غير مشرّف فى نهب ثروات الأمم الأخرى، من بشر وحجر. وأوروبا المفككة حالة فرنسية الآن، فمن باريس يأتى الخلاص، وانتشار العدوى. شارل ديجول، زعيم فرنسا الأسطورى، فكّر فى جيش أوروبى، يحمى من قياصرة السوفيت، وأباطرة اليانكى الأمريكي، ومن نوبات العصاب القومى فى القارة العجوز، ولكن الشرق والغرب تجاهلا فكرته، وتناساه الإخوة الأعداء فى أوروبا، وبعد أكثر من نصف قرن، عبّر إيمانويل ماكرون، الرئيس القادم من بنك آل روتشيلد عن نفس الفكرة، فواجه سخرية من دونالد ترامب، وتململت ألمانيا المغبونة بمعاهدة فرساي، ودستور كونراد إديناور، أول مستشار ألمانى بعد النازية. أوروبا العجوز خليط من 53 قومية وعرقية، تصادمت مع آسيا وإفريقيا، القارتين القديمتين، على مدى قرون، ولا تزال، وتصادمت حتى مع القارات المكتشفة حديثا، كالأمريكتين وأستراليا، ولا يوجد شبر من أراضى المعمورة إلا وفيه أثر من الكشافة الأوروبيين، أثر دموى أو علمي، وحتى مع فطام الناس من الحالة الأوروبية المستعصية، لا تزال القارة العجوز تفكر فى العودة، لا تنسى أبدا ادعاء أستاذيتها للعالم. شرارة «السترات الصفراء» انطلقت من باريس، انطلقت لتكتب الحساب الختامى لحقبة زمنية طويلة، بدأتها أوروبا باكتشاف الأراضى الجديدة، واستمرت خمسمائة عام، ورغم ما جرى، تبدو أوروبا مشحونة برغبة حارقة فى استئناف عصر جديد من الكشوف، هذه المرة بصناعة فوضى عالمية، تنتصر فيها بعد أن تضع الفوضى أوزارها. إنها لا تصدق أن الحارس الأمريكى قرر الإقلاع على الطائرة المتجهة إلى عزلة نهائية دون أن يصاحبها فى رحلة أستاذية العالم، ولا تصدق أن مواردها الجوهرية هى العدم، مقارنة بموارد مناطق أخرى لا تزال بكرا، ولم تدخل بعد العصر الصناعى أو التكنولوجي، وهى تقف مانعة صاعقة للدخول فى هذا العصر، ولا تصدق أن حكاية أوروبا النقية، حسب الفرنسى فاليرى جيسكار ديستان، محض حكاية خيالية. أوروبا تنام وتصحو تحت مقصلة الديون، ديون تراكمت منذ أزمة الرهن العقاري، وتراكمت مع اختراع عملة اليورو، مدمرة العملات الوطنية، وتحكم بروكسل فى رقاب العباد، مقر الاتحاد الأوروبي، اتحاد العرقيات والقوميات المتنافرة، وفشلت معها عقيدة اليورو فى توحيد ما لا يوحد. بريطانيا خرجت الآن، وقد دخلت الاتحاد متأخرة عشرين عاما، بدأ الاتحاد بست دول عام 1953، وانتهى ب 27 دولة الآن، وانضمت إليه بريطانيا عام 1973، ورفضت، رغم عضويتها الكاملة، أن تتخلى عن الجنيه الإسترليني، عملتها الوطنية المبجلة، وهناك عشر دول ترفض التخلى عن عملاتها الوطنية إلى الآن، وهناك دولة، قد تدمر فكرة الاتحاد من أساسها، هى إيطاليا. إيطاليا ترفض كل سياسات بروكسل المالية، وترفض أن تتخلى عن رؤيتها لصالح المجموع الأوروبى، والاتحاد سيتواءم مع رغبة إيطاليا خوفا من الانهيار، وخوفا من انفراط الرحلة القصية فى التوحيد مع خروج بريطانيا باتفاق البريكست، واستعادة كل دولة لرايتها الشعبوية والقومية، وأوروبا الآن تسبح فى بحر لا قرار له من القومية، والشعبوية، والعرقية، وحتى اللغوية، وقد دارت العجلة، وما «السترات الصفراء» إلا مشهد أخير من فيلم الحالمين للمخرج العبقرى برناردو برتولوتشي. استعدوا للإقلاع، فالطائرة تتجه الآن إلى خرائط جديدة دون وجود مقعد لأوروبا، والسادة المسافرون هم: أمريكا الإمبراطورية المعزولة بعقيدة مونرو الحديدية، والصين العابرة على طريق الحرير، وروسيا المشاغبة بقيادة قيصر، تعلم الحكمة من رأس الذئب الطائر. واستعدوا أن تملأوا الفراغ النادر منذ قرون، لا تنتظروا اليانكى الأمريكى، ولا الدب الروسي، ولا التنين الصيني، ولا الجماعات الوظيفية القادمة من بلاد الغراب التركي، أو من بلاد الطاووس الشاهنشاهي. احجزوا مقاعدكم فى الدرجة الأولى، واربطوا الأحزمة، واستعدوا، فعالم اليوم ماضٍ بعيد جدا، وعند باريس الخبر اليقين.