- الشركات متعددة الجنسية صاحبة السطوة والنفوذ في العالم الآن.. وحلم الشباب فى الهجرة جزء من سياسة العولمة - الطبقة المتوسطة تاهت فى الزحام لكنها لم تنقرض.. والطبقة العليا تضخمت فى عهد مبارك بسبب زواج المال والسلطة
- قيادة الشباب ثورة يناير بدون زعامات دليل قاطع على أن الشعب المصرى لم يفقد حيويته
- مبارك ظل ينفذ سياسة السادات حتى منتصف الثمانينيات وبعدها عشنا ثلاثين عاما بلا رؤية
- حصول أبنائي على الجنسية البريطانية بجانب المصرية لم يقلل أبدا من ولائهم وانتمائهم لمصر
- أتنقل دوما بين أشعار طاغور وصلاح جاهين ..وأعود دائما إلى كتاب والدى «فيض الخاطر»
- والدى رفض طلب الشيخ البنا الانضمام إلى «الإخوان».. وكان يرى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة
- تعويم الجنيه وقرض الصندوق «إصلاح مالى» وليس اقتصاديا
- نحن فى حاجة إلى إحياء الصناعة الوطنية وإعادة تشغيل المصانع التي توقفت والدولة مطالبة بمساعدتها عن طريق قروض ميسرة أو تخفيض نفقات النقل
فى حياة الدكتور جلال أمين دروب عدة نتطرق إليها، كإنسان ومفكر وكاتب، وفى كل درب ستبحر في أفكار ومعان من العمق والبساطة في آن واحد، ما يجعلك تبحر أكثر فأكثر وأن تتمعن في كل حرف. كمفكر هو لا يؤمن بالبديهيات.. فنجده يخضع كل الأفكار الثابتة للتحليل والنقاش شأنه شأن كل المجددين، حتى فكرة وجود أمم متقدمة وأخرى متخلفة على ترسخها، أثارت في نفسه ملكة النقد، فأصدر مؤلفا كاملا أطلق عليه «خرافة التقدم والتأخر».
وكأستاذ للاقتصاد ستجد لديه القدرة الفذة على قراءة الراهن وتحليله، وربطه بكل معطيات الحياة السياسية والاجتماعية ثم وضع رؤى مستقبلية، وهو في ذلك كله لا يدعى امتلاك الحقيقة ولا يحتكرها. بل يري أن للحقيقة وجوهاً أخرى عديدة يجب وضعها في الاعتبار.
وككاتب جاء أسلوبه سهلا لينا طيعا وربما لعبت الجينات الوراثية دورها في ذلك، فتلك الجينات تلعب لا محالة دورها في مقدراتنا دون أحيانا أن نشعر، وقد كان للدكتور جلال أمين نصيب كبير منها، فهو ابن الكاتب القدير أحمد أمين الذي يحتاج بمفرده إلى سطور وسطور، فهو القاضي والكاتب صاحب فجر الإسلام وضحى الإسلام. حين تقرأ ما كتبه جلال أمين من سيرة ذاتية فى مؤلفه الرائع «ماذا علمتنى الحياة؟» تكتشف جانبا آخر فى شخصيته وهو الصراحة والأريحية وبساطة الأسلوب وسرد واقع حياة لم يزيفها أو يضف عليها بهارات الروايات الأسطورية، ككتاب آخرين خلعوا على أنفسهم سمات البطولة وهم يكتبون سيرهم الذاتية، ففى تلك المذكرات كتب عن والده الذى كان يتمنى زوجة أكثر جمالا من زوجته، وعن والدته التى كانت تتمنى الزواج من ابن خالتها.. فجاءت سيرته وسيرة أسرته بطعم ولون البشر، وهذا وجه عظمة مفكر بحجم جلال أمين فهو يحلل المجتمع بمبضع خبير لا يغفل تفاصيل البشر، فقررت أن يكون حوارى معه أيضا بطعم ولون وحياة البشر.
وفى هذه الحلقة من الحوار يتحدث د. جلال أمين عن الشخصية المصرية وكيف تغيرت منذ ألَّف كتابه الأول «ماذا حدث للمصريين ؟» يتحدث د. جلال أمين، ويتناول منظومة الأخلاق وما طرأ عليها سلبا وإيجابا..كما تحدث عن تجديد الخطاب الديني، وعن حالة الحنين إلى الماضى التى سيطرت على المجتمع المصرى.
ماذا حدث للمصريين؟ كان هذا عنوان مؤلفك الضخم الذى أصدرته قبل عقد ونصف العقد من الزمان، وفيه وضعت نصف قرن من عمر مصر من 1945 حتى 1995 تحت المجهر لتحدد ملامح التغير، لو كتبته اليوم.. ماذا ستكتب؟ لقد بدأت فكرة هذا الكتاب تتخمر فى ذهنى منذ نحو 30 عاما، فقد جذبتنى حالة الحراك الاجتماعى وصعود شرائح اجتماعية بسبب الهجرة للخليج وارتفاع أسعار البترول.. وبالتالى كان الحراك الاجتماعى أهم ظاهرة فى المجتمع المصري، حاليا لم تعد هى الظاهرة الأساسية.. أهم ما يحدث للمصريين هو معاناتهم من البطالة.
هذا من الناحية الاقتصادية، فماذا عن الجانب الاجتماعى.. وما حدث للمصريين فيه؟ انعدام الرؤية هى الملمح الأساسى فى الشخصية المصرية الآن.. فعبد الناصر كانت لديه رؤية وكذلك السادات ومبارك استمر منفذا لسياسة السادات حتى منتصف الثمانينيات، وبعدها لم تعد هناك أى رؤية.. أى أننا ظللنا نحو ثلاثين عاما بلا رؤية واضحة. ربما لأن العالم تغير وأضحى هناك انفتاح، لكن الواضح أنه خلال الثلاثين عاما ظلت الدولة غائبة لم تقم بشيء ذى قيمة.
وماذا عن منظومة الأخلاق ..المدقق فى أحوال الشارع المصرى اليوم يجد انحدارا فى السلوكيات ..الطبقة المتوسطة التى ينتمى إليها المتعلمون وأساتذة الجامعات والموظفون وغيرهم ،لم تعد بقدر الرقى الذى كنا نشاهده فى الأفلام الأبيض والأسود؟ أولا نحن لا نستطيع أن نتحدث عن تغير فى الأخلاق بل هو تغير فى السلوكيات التى يمكن أن تتبدل بسرعة، خصوصا أن الطبقة المتوسطة تتغير أو تتغذى دوما بفعل صعود البعض إليها من الطبقات الدنيا أو هبوط البعض إليها من الطبقات العليا، فى أوائل الأربعينيات كانت تلك الطبقة تمثل 20 % من المجتمع المصرى وكانت طبقة راقية وحققت مكانتها فى المجتمع بفضل التعليم لا الثراء، وهذا ما جعلها تتمتع بقدر من الاستقرار والاطمئنان على مركزها الاجتماعي، وبالتالى مستقبلها. لكن جاء النصف الثانى من القرن العشرين بالعديد من المتغيرات التى هددت ذلك الاستقرار، فأضحت هناك سلوكيات مغايرة.
هل تعتقد أن تجديد الخطاب الدينى قد يعيد شيئا مما افتقدناه؟ الحديث عن تجديد الخطاب الدينى لا أراه طريقا للإصلاح لأننى لا أثق فى طريقة إلقاء المواعظ ولا أقتنع بها ولا فى جدواها. تغيير الفكر الدينى لا يكون بتقديم الحجج المضادة للحجج السائدة، بل بتغيير الميول والاستعداد النفسى، وهذا لا يتأتى إلا بوضع الإنسان فى ظروف اجتماعية ونفسية مختلفة تؤدى إلى قناعات مختلفة أو تساعد على نشوء هذه القناعات الجديدة. وحالة مصر شهدت فى النصف الأول من القرن العشرين ظروفا اقتصادية واجتماعية مختلفة جدا عما شهدته فى النصف الثاني. لم تتقدم مصر اقتصاديا بسرعة خلال النصف الأول، ولم نتخذ إجراءات مهمة للتقريب بين الطبقات، لكننا نلاحظ أن درجة التسامح إزاء الأقليات كانت أعلى مما عرفته مصر فى النصف الثانى من القرن. الحراك الاجتماعى خلال الخمسينيات والستينيات، استند إلى عوامل أقل إثارة للطمع والجشع مما حدث بعد ذلك، فخلال هذين العقدين حدث انتشار سريع وواسع للتعليم المجانى والخدمات الصحية، كما صدرت قوانين أدت إلى إعادة توزيع الدخل، والتخفيف من حدة الفوارق الطبقية بدرجة ملموسة (أهمها قانون الإصلاح الزراعي)، مما لم تعرفه العقود التالية، كان الحراك الاجتماعى الذى شهدته مصر خلال السبعينيات والثمانينيات يستند فى الأساس إلى الهجرة إلى دول أكثر ثراء، وهو عامل عشوائى يتطلب درجة من الشطارة وروح المغامرة مما قد يكون ذا صلة بما لحق روح التسامح الدينى فى مصر من ضعف بعد عقد الستينيات، وحلول مشاعر مضادة محلها. إذن علينا أن نهتم بتغيير السياسات أكبر من اهتمامنا بتغيير الفكر، سواء كان دينيا أم غير ذلك، فتغير الأفكار تابع لتغير الأحوال المعيشية أكثر من العكس.
هنالك الآن حالة من الحنين إلى الماضي، سيطرت على المجتمع المصرى وتحولت إلى حالة أسهمت فى انتشارها وسائل التواصل الاجتماعى وكأن هناك رفضا للواقع ورغبة فى الانغماس فى الزمن القديم فأصبح هناك من يمجد فى الملكية ويستشهد بما كانت مصر عليه آنذاك. وهناك من يترحم على زمن الفن الجميل حيث كان العمالقة فى شتى مجالات الثقافة والأدب.. فى تحليلك لماذا هذه الحالة .. وهل هى طبيعية ومنطقية؟ الحنين يجعل بعض الأزمنة الماضية تبدو أحيانا أجمل من الحقيقة، ولكن قد تكون هذه الأزمنة أكثر مجلبة للسرور الحقيقى من غيرها، للكثيرين من الناس. فجيلنا مثلا يرى الزمن الجميل متمثلا فى مطلع الخمسينيات حين قامت ثورة يوليو، واتخذت مجموعة من الإجراءات التى أسعدتنا، كالقضاء على الإقطاع ومجانية التعليم والتأميم ..وأتذكر آنذاك أغنية “ع الدوار راديو بلدنا فيه أخبار”، والتى كانت تجسيدا لكم الأخبار السارة المبهجة التى كنا نستمع إليها عبر الأثير، إلى أن جاءت هزيمة 1967 فانتهى الزمن الجميل بالنسبة لنا، لكن الزمن الجميل يتكرر .ألم يحدث ذلك فى يناير 2011 على يد شباب ذكرونا بما فعله الضباط ليلة 23 يوليو ، ألم يأتوا بالمطالب نفسها: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ألم يكونوا بالحماسة نفسها وكنا أمام زمن جميل آخر قبل أن تتوالى الأحداث. لكن ما الذى يمنع أن يأتى زمن جميل آخر فقط علينا ألا نتوقع أن يشبه ما مضى بكل حذافيره وتفاصيله وشخوصه.
بعض الشباب المصرى أصبح يشعر بالاغتراب حتى أضحت الهجرة هى الحلم بالنسبة له كى يفر بحثا عن “الفردوس المفقود” داخل وطنه؟ لا نستطيع لوم الشباب على ذلك، فكل عام هناك مئات آلاف الخريجين الجدد، الذين تخرجوا فى كليات لا يحتاج البلد إلى تخصصاتهم والاستثمار الخاص غير كاف. وظاهرة الرغبة فى الهجرة ليست مصرية فحسب بل هى إفريقية وآسيوية، حيث يتدفق منها المهاجرون إلى شمال أوروبا . فالطلب عليهم فى بلدان أجنبية أكثر من الطلب عليهم فى بلدانهم . وهذا جزء من العولمة، فالشركات الأجنبية الكبرى تخلق فرص عمالة فى مختلف دول العالم ، وبالتالى فهى تجتذب المزيد من الشباب، وزاد المشهد مع تدفق السوريين وهو مشهد مأساوى لتهجير شعب بأكمله.
وبعض الشباب المصرى يتلهف حاليا على الحصول على جنسية أخرى .. عكس جيلك برغم أن الفارق الزمنى بين الجيلين ليس كبيرا ..فما الذى أحدث ذلك التغيير فى الرؤية والتفكير؟ نحن نعيش الآن عصر العولمة، حيث تراجعت فكرة القومية والشباب أصبح يبحث عن مشروعه الخاص. وأضحت الشركات متعددة الجنسية هى صاحبة السطوة والنفوذ فتراجع الانتماء للأرض فى مواجهة المال. فى حين كانت الفكرة الأساسية التى تشكل جيل الستينيات والسبعينيات هى القومية.
ألهذا السبب وافقت على أن يحصل أبناؤك على الجنسية البريطانية برغم رفضك فى البداية؟ بالفعل رفضت فى بادىء الأمر أن يحمل أبنائى جنسية أخرى بجانب جنسيتهم المصرية. ورفضت ذلك رفضا جازما فكنت أرى أننى مصرى وأبنائى مصريون ويجب ألا تكون هناك جنسية ثانية. لكنى بعد ذلك بثلاث أو أربع سنوات تغير رأيى إلى النقيض، فتغيرات السياسة جعلتنى أرى مستقبل مصر بشكل مختلف، وأنها ستظل فى الطريق الذى رسمه السادات. من جانب آخر أصبحت على قناعة بأنه من الخطأ أن ننظر إلى أبنائنا بوصفهم مجرد امتداد لنا وأنه ليس من حقى اتخاذ قرار عنهم قد يضيق من نطاق حريتهم فى المستقبل .. ولم أندم على قرارى فحصولهم على الجنسية البريطانية إلى جانب المصرية لم يقلل أبدا من ولائهم وانتمائهم لمصر .
عودة إلى الشباب المصرى مرة أخرى .. تقول إن علينا التفاؤل فكيف وشباب مصر يريد تركها؟ الشباب قادوا ثورة يناير دون قيادات أو زعامات، وهذا دليل قاطع على أن الشعب المصرى لم يفقد حيويته برغم كل ما تعرض له من صنوف القهر خلال العقود الماضية وبرغم حرمانه من اكتشاف قيادات جديدة. وأذكر فى هذا الصدد قصة وقعت قبيل 25 يناير، عندما اتصلت بى فتاة من كلية الطب بإحدى الجامعات المصرية تطلب منى حضور ندوة فكرية مع الشباب داخل الكلية لمناقشة ظاهرة هجرة الشباب تحديدا، لكن الأمن اعترض على شخصى وعادت الفتاة لتخبرنى أنه سيتم تنظيم الندوة خارج الكلية. وفى اليوم المحدد جاء شاب لاصطحابى إلى مقر الندوة. وفى الواقع فتننى الشاب بذكائه وأسلوبه وحماسته فى الكلام. وعلمت منه أنه من مواليد المنيا، وأن والده مدرس اللغة العربية كان يقدم له كتب طه حسين ونجيب محفوظ كمكافأة على أى عمل جيد يقوم به. وقال لى إنه يعتزم الهجرة فور تخرجه، وأنه قد تقدم بالفعل بطلب إلى السفارة الأمريكية. هذا الشاب والفتاة التى اتصلت به، وكانت غاية فى الذكاء والحماسة مصدر تفاؤل كبير كذلك الشباب الذين شاركوا فى الندوة.
برغم أن هذا الشاب أخبرك بنيته فى الهجرة.. ما زلت متفائلا؟ لى أسبابى فى التفاؤل حول مستقبل مصر، ربما يكون أهمها أن الأحوال فى مصر خلال الأربعين عاما الماضية وصلت إلى أسوأ حالاتها. وبالتالى لا يمكن أن تتغير إلا إلى الأفضل.. وتاريخ مصر خلال المائتى عام الأخيرة كان عبارة عن فترات صعود وهبوط. وفترة الهبوط التى نعيشها ستنتهى حتما. ثم إن هناك مستوى من الوعى السياسى صنعه التعليم على كل مشاكله وعيوبه وتدهور مستواه فى مصر من الابتدائى وحتى الجامعة، لكن يجل أن نعترف بفوائد الانتشار الكمى للتعليم، فنسبة الأمية وإن كانت مرتفعة فإنها لا تمثل 80 % كما كانت قبيل يوليو 1952 .كما أن الجامعات الإقليمية لعبت دورها فى رفع مستوى الوعى بحيث لم يعد مقصورا على طبقة صغيرة .
أنت ابن الطبقة المتوسطة التى حققت مركزها الاجتماعى بالتعليم كما فعل والدك وفعلت أنت وإخوتك .. لذا دعنى أسألك .. فترة حكم السادات والانفتاح السداح مداح “كما وصفه أحمد بهاء الدين” متهمة بأنها السبب فى قلب الهرم الاجتماعى وانقراض الطبقة المتوسطة.. كيف يمكن أن نفسر ذلك من واقع التغير الاجتماعى والسياسى فى مصر عقب ثورة يوليو 1952؟ كانت الطبقة المتوسطة عندما قامت ثورة يوليو 1952 ، صغيرة لا تتجاوز 20 %. بينما كانت الغالبية العظمى من المصريين تتجسد فى الفلاحين . بينما كانت الطبقة العليا لا تمثل سوى 1 % من المجتمع. كانت الطبقة المتوسطة تتميز شكلا ومضمونا. فمن حيث الشكل كانت تلتزم بالزى الأفرنجى «البدلة» بالإضافة إلى الطربوش العثمانى. وكانت طبقة متعلمة .. فقد كان التعليم آنذاك هو الطريق المضمون للصعود والانتماء إلى الطبقة المتوسطة . وكان أبناء تلك الطبقة يهتمون بارتياد المسارح وصالات الغناء . ويمكن أن نقول إنها كانت الطبقة الوطنية .فالطبقة العليا كانت تتشكل من ذوى الأصول التركية التى تسودها روح التعالى على الفلاحين المصريين. بينما كانت الطبقة العظمى من الشعب متمثلة فى الفلاحين أسيرة الفقر والجهل، ومنشغلة بكسب القوت للبقاء على قيد الحياة. فى حين كانت الطبقة المتوسطة التى تلقت تعليما راقيا آنذاك، على وعى بالقضية الوطنية وتؤمن بضرورة التخلص من الاحتلال البريطانى . وهذه الطبقة هى التى قامت بثورة 1919 . وكانت طبقة منتجة ثقافيا ومن بينها خرج طلعت حرب الذى أنشأ بنك مصر . عندما قامت ثورة يوليو فتحت الباب لزيادة نسبة الطبقة المتوسطة فى المجتمع عن طريق مجانية التعليم وقرارات الإصلاح الاقتصادي. فدخلت أعداد من الطبقة الدنيا إلى الطبقة المتوسطة، فأصبحت الطبقة المتوسطة الجديدة أقل تجانسا من حيث جذورها الاجتماعية وظروف نشأتها. كما تغير مبدأ أن التعليم هو الوسيلة للترقى داخل هذه الطبقة، إذ أصبح يمكن الصعود طبقيا بالتقرب من رجال الثورة. وأصبحت الطبقة المتوسطة خلال الخمسينيات والستينيات أقل تمسكا بأنماط السلوك المرتبط فى الذهن ب” الحضر”، ومن ثم أقل تميزا عما كانت قبل الثورة عن أهل الريف، وعن شرائح الطبقة الدنيا من سكان المدن . وقد غزت الشرائح الصاعدة من الطبقة الدنيا شوارع وأندية وأحياء الطبقة المتوسطة القديمة . وهكذا فقدت الطبقة المتوسطة المصرية فى العقدين الأولين من الثورة الكثير من تميزها. لم تعد هى الطبقة الحضرية المتعلمة تعليما راقيا وتتميز بلباس معين وتسكن أحياء بعينها.
وماذا عن الحس الوطنى لديها؟ الطبقة المتوسطة لم تفقد حسها الوطنى على العكس ارتفعت وتيرته بعد يوليو 1952 وانعكس ذلك فى إنتاجهم الثقافى والفنى وفى مشاركتهم فى الميدانين الاقتصادى والاجتماعى . وشهدت العشر سنوات الأولى التالية للثورة ازدهار مختلف أنواع الإنتاج الثقافى. ولكن مع أوائل الستينيات تلاحقت الأحدث مع انفصال سوريا عن مصر وإرسال القوات المصرية إلى اليمن واشتداد القبضة البوليسية فى المجتمع .كما اعترض المثقفون الكبار على حالة التبعية الثقافية والاقتصادية للدولة حتى هاجر كبار اقتصاديينا الوطنيين أمثال على الجريتلى وسعيد النجار .ثم وقعت هزيمة 1967 وغابت الدولة التى كنت تدير كل شىء فى مختلف المجالات، واستمر نمو الطبقة المتوسطة فى السنوات التالية مع فقدان الكثير من تميزها.
وكيف أثر الانفتاح الاقتصادى على الطبقة المتوسطة؟ جاء عهد السادات بما حمله من انفتاح اقتصادى وهجرة إلى بلاد النفط، مما أدى إلى دخول أعداد أكبر من أبناء الطبقة الدنيا إلى الطبقة المتوسطة فى فترة قصيرة. واختلط الحابل بالنابل. وأصبحت الطبقة المتوسطة أقل تجانسا، فهى حضرية وريفية فى الوقت نفسه ومتعلمة وأمية . وما إن بلغنا الثمانينيات حتى تراجع الحس الوطنى لدى الطبقة المتوسطة مقارنة بما كانت عليه فى الخمسينيات والستينيات وظهر ذلك جليا فى الإنتاج الثقافى فالطبقة المتوسطة أضحت مشغولة بالاستهلاك لا الإنتاج. ابتداء من منتصف الثمانينيات حتى الآن تلقت الطبقة المتوسطة عدة ضربات أدت إلى انخفاض معدل نموها وتراجع حسها الوطني، جاء ذلك بعد انخفاض أسعار النفط فى منتصف الثمانينيات . ومع الغزو العراقى للكويت عاد الكثير من المصريين إلى مصر . وزادت معدلات البطالة وارتفع التضخم، وضاعت كل المميزات التى كانت تتسم بها تلك الطبقة فالتعليم الذى كان يميزهم أصبح هو نفسه الذى يتلقاه أولاد الفقراء. هذا التراجع فى الطبقة المتوسطة ما جعل الجميع يتحدث عن زوال أو انقراض الطبقة المتوسطة وهو ما دفع الاقتصادى د. رمزى زكى إلى كتابة مؤلفه «وداعا للطبقة الوسطى» وهى فى الحقيقة اختفت لكنها لم تنقرض أو لنقل إنها تاهت وسط الزحام.
وماذا عن وضع الطبقة العليا الآن؟ زادت رقعتها بعد ثورة يوليو, لكنها تضخمت فى عهد مبارك بفضل التزاوج بين المال والسلطة وأصبحنا أمام طبقتين فى المجتمع: طبقة عليا وطبقة دنيا، بعد أن انضمت الطبقة الوسطى إلى الدنيا بما تحمله من أعباء وما تشعر به من إحباط وما تناله من تعليم متدن وتراجع حسها الوطني.
بمناسبة ذكر الشعب السورى ..البعض يردد أن السوريين اللاجئين فى مصر بما حققوه من خلق فرص عمل لأنفسهم وبسرعة فى مجتمع يعانى من البطالة لهو خير دليل على أن البطالة صنعها المصريون بأنفسهم؟ الشعب السورى وشعوب شرق المتوسط عموما يتمتع سكانها بروح المبادرة، فهم لا ينتظرون الفرص بل يقومون بخلقها .. لكن نسبة من ينجح منهم ليست مؤشرا على أن المصريين كسالى, وأنهم لا يخلقون فرص العمل، فالسوريون يعانون فى أوروبا أيضا.
الإجراءات الاقتصادية التى تم اتخاذها خلال العام الأخير من الحصول على قرض الصندوق الدولى ثم تعويم الجنيه وما تبع ذلك من إجراءات.. كيف تقيمها؟
يمكن وصف ما تم اتخاذه من إجراءات على أنها “إصلاح مالي” وليس اقتصاديا.. سواء أكان تعويم الجنيه أم قرض الصندوق.. وتلك الإجراءات، إنما تكشف عن غياب رؤية اقتصادية، تلك الرؤية التى تتطلب وجود تخطيط وتحديد للشرائح الاجتماعية المأخوذة فى الاعتبار عند اتخاذ تلك الإجراءات وتحديد المدى الزمنى للتحسن.. والسؤال هنا : لماذا لا توجد رؤية؟ أعتقد أن الإجابة تكمن فى عدم وضوح الالتزام الاجتماعى للحكومة. وهذا ينطبق على كل الحكومات التى تعاقبت منذ ثورة يناير.
أعتقد أن ذلك يمتد للحكومات السابقة على ثورة يناير أيضا؟
مبارك كان منحازا للأغنياء، وهذا كان واضحا طيلة فترة حكمه. ولما قامت ثورة يناير، كان الأمل فى التغيير كبيرا ولما لم يحدث هذا أضحى السؤال الأهم لماذا قامت الثورة إذن؟. لقد تعاقبت حكومة تلو الأخرى حتى وصلنا إلى رئيس الحكومة الحالي، وهو شخص غير معروفة رؤيته الاقتصادية .
كيف تنهض مصر من كبوتها الاقتصادية؟
لا بد أن تكون النية صادقة وأن يكون هم كل مسئول الإصلاح وليس المنصب.. لابد أن يعاد الاعتبار لسياسة التخطيط التى تم إهمالها فى مصر وأضحت الوزارة المسئولة عنه، مجرد مكان يرتاده الموظفون دون أن يمارسوا أى دور. لقد كانت أول وآخر خطة تعرفها مصر “الخطة الخمسية 1960 1965”. إذن نحن فى حاجة إلى خطة محددة تستهدف الشرائح الاجتماعية الأكثر احتياجا، وهى الشرائح الدنيا والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة. الأمر الآخر هو التصدى لظاهرة البطالة بتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار فى المناطق التى تحتاج إلى عمالة كبيرة، بأن تمنحهم مزايا ضريبية. على الدولة مكافحة التضخم بزيادة الإنتاج، وبالتالى تشغيل المصانع التى كانت تعمل بنصف طاقتها، ويمكن أن يتم ذلك من خلال منحها قروضاً ميسرة بأسعار منخفضة الفائدة.
بعض الخبراء يستشهدون بتجربة لولا دا سيلفا فى البرازيل، والذى استطاع إقامة بلاده من عثرتها الرئيس الذى كان يوما ماسح أحذية فقضت على 70 % من الفقر في7 سنين؟ ظروف مصر الحالية تجعلنا نميل إلى تشجيع المشروعات الصغيرة التى تعالج أزمة البطالة بأقل نسبة من رأس المال. ولكن هذا الكلام عام وتنفيذه يحتاج إلى سياسة بها درجة كبيرة من اللا مركزية، شريطة أن نحدد ظروف البطالة والعمالة لمختلف المحافظات وتنويع سياساتنا الاقتصادية بما يعطى للمحافظين سلطات أعلى مما لهم حاليا من أجل تشغيل شباب الخريجين ومكافحة البطالة.
د. جلال.. أرى أمامك زجاجة كولونيا 3 خمسات التى تذكرنا بمنتجات الشبراويشى وهى إحدى الصناعات الوطنية التى تفتحت أعيننا عليها ثم اختفت فجأة أو توارت برغم جودتها ..ألسنا فى حاجة إلى إعادة تلك المنتجات وأمامنا فرصة ذهبية تتمثل فى غلاء أسعار المستوردة المناظرة لها؟ بالتأكيد لابد من إعادة الصناعة الوطنية وتشغيل المصانع التى توقفت ماكيناتها وهنا يتجلى دور الحكومة بتقديم يد العون لها سواء بتقديم قروض ميسرة أم قطع أراضٍ بأسعار منخفضة أم تخفيض نفقات النقل.
لكن المهم ألا تقف مافيا المستوردين ضد إحياء الصناعة الوطنية؟ هذا هو المحك فهل تعمل الحكومة لصالح المستوردين أم المنتج المحلى خصوصا وأن المستوردين ورجالهم لهم دور كبير فى السياسة.
التيارات السياسية فى مصر الآن وبسبب مواقفها المختلفة المتأرجحة منذ ثورة يناير وحتى الآن أضحت معيبة، وبالتالى فقدت السند الشعبى الذى كان فى الأصل ضعيفا..كيف ترى المشهد منذ 25 يناير وحتى الآن؟ الملاحظ أن الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية لم تلعب دورا فى 25 يناير،ومن بينها تلك الأحزاب التى كانت توصف بأنها «ثورية»، منها من رفض الاستجابة لدعوات التظاهر، متعللا بأن 25 يناير إجازة رسمية بمناسبة عيد الشرطة. وفى التظاهرات لم يظهر رئيس حزب شهير أو زعيم سياسي، وهذا ليس خطأ الأحزاب فحسب، فالنظام السابق حجم تلك الأحزاب وقزمها ومنعها من الظهور والوجود الشعبي. وتوالت الأحداث التى فشلت خلالها تلك الأحزاب من القيام بدور حقيقى فى الحياة السياسية. ولا أستطيع أن ألوم التيارات السياسية وحدها، فالظروف الاجتماعية والسياسية المتباينة عبر فترات زمنية طويلة لم تمكنهم من ممارسة دورهم وهذا مع الوقت أدى إلى أن فقدت النخبة دورها وبريقها ووجودها.
وهل ستستمر تلك الحالة؟ هناك إجابتان الأولى سهلة، وهى أن حالة الإحباط ستستمر ما دامت الظروف المسببة لها مستمرة. وأنا أرى أن إسرائيل لاعب أساسى فى حالة الفوضى بالمنطقة، ولذا قد يطول الإحباط. ما حدث فى سوريا والعراق مأساوى، رغم أن الأمور فى مصر ليست بهذا السوء. وهناك قوى متصارعة فى الشرق الأوسط بينها إيران وتركيا وإسرائيل من أجل الحصول على المزيد من النفوذ، ومصر- بكل أسف- ليست لاعبا فى هذا الصراع ولا نعلم متى سينتهى هذا الصراع وكيف.
نأتى إلى العنصر الأكثر إثارة للجدل فى معادلة الحياة السياسية بمصر الآن. وهو الإخوان..كيف تقيم مسيرتهم السياسية؟ الإخوان كأى جماعة فاشية يتصورون خطأ أن المصلحة العامة هى مصلحة الجماعة. بينما هذا عادة غير صحيح وقد كان ذلك نفسه هو خطأ بعض الأحزاب الشيوعية والفاشية فى إيطاليا والنازية فى ألمانيا.. فهؤلاء يتصورون أنه لا يدخلهم الباطل من أى وجه، وأنهم أحاطوا بالحقيقة من مختلف جوانبها. وهذا تكون توابعه شديدة السوء، فلا يمكن أن أدعى الديمقراطية وأنا أظن أننى لا أخطئ أبدا. وهذا العناد يفسر ما ارتكبه الإخوان من أخطاء حتى الآن. وهو عناد ناتج عن موقف نفسى وليس موقفا فكريا.. فهناك نفسيات معينة لديها استعداد لتبنى الموقف الفاشي، معظم الشيوعيين الذين عرفتهم فى حياتى لديهم هذا الموقف النفسى الذى يجعل المرء يعتقد أنه على صواب دائما، وأن من حقه إسكات الآخرين ولو باستخدام القسوة.. وذلك الموقف النفسى يحتاج إلى محلل نفسي. لكن كمحلل سياسى واجتماعى أستطيع القول، إن هناك ظروفا اجتماعية معينة فى مصر هى التى تساعد على تفاقم هذا المرض، وهذا المناخ الاجتماعى انتشر بشدة فى الأربعين عاما الماضية وهو ما قمت بتوصيفه فى بعض كتبى ومنها «ماذا حدث للمصريين»؟ وتلك الظروف الاجتماعية التى أعنيها ليست الفقر وحسب. بل أيضا الإحساس الشديد بالحرمان والتقارب المحروم وغير المحروم فى المجتمع وهو ما لم يكن كائنا قبل ثورة 23 يوليو، بالإضافة إلى الطموحات المادية الزائدة التى ولدها التليفزيون وترويج السلع الاستهلاكية.. هذا كله أدى إلى تفاقم الموقف النفسى الذى تحدثت عنه.
هل ترى أن صفحة الإخوان قد طويت من الحياة السياسية المصرية؟ الإخوان – فى رأيى - لا يشكلون خطرا على مصر ، الشعب المصرى ذكى ووسطى وموقفه الدينى غير متطرف. ولو تركت تلك التيارات وشأنها لم تكن لتمثل أية خطورة.. فالمشكلة فى الدول التى ترعاها وتمد لها يد العون من خارج مصر.
لكن بعد المقاطعة العربية لقطر .. يرى المحللون أن الإخوان فقدت سندا ماديا ومعنويا فى غاية الأهمية؟ للأسف الإخوان سيستمرون لأن هناك قوى خارجية خلاف قطر تلعب بورقة الإخوان، وقطر نفسها مدفوعة من آخرين.
حسب معلوماتى أن الشيخ حسن البنا طلب من والدك الانضمام إلى الإخوان.. فماذا كان موقف أحمد أمين كمفكر وكاتب؟ المعلومة صحيحة، فقد نشر الشيخ حسن البنا فى جريدته مقالا يحمل بالخط الكبير عنوان «خطاب مفتوح إلى الأستاذ أحمد أمين» يثنى فيه على مؤلفات أبى عن تاريخ الإسلام، ويدعوه للانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين. وقد رفض أبى هذا العرض وهو ما ذكره فى مناسبات مختلفة، من أن جماعة الإخوان المسلمين كان يجدر بها أن تقتصر على نشر الدعوة للإسلام، والعمل فى مجالى الأخلاق والخدمة الاجتماعية، وأن تبتعد عن السياسة، لأن إقحام الدين فى السياسة يفسد السياسة والدين على السواء. وما حدث خلال السبعين عاما التى انقضت على هذه الواقعة، تؤيد فى رأيي، أن أبى فى هذا كان على صواب. فقد كنت أؤيد بشدة ضرورة الإصرار على أن تلتزم الجماعة بحدود الدعوة الدينية والعمل فى مجالى الأخلاق والخدمة الاجتماعية، ولا أستسيغ أن يستخدم الخطاب الدينى فى الدعاية الانتخابية وفى تأييد مرشح ضد مرشح آخر، كالذى رأيناه من استفتاء مارس 2011، مرورا بانتخابات مجلس الشعب فى السنة نفسها ، ثم فى انتخابات رئيس الجمهورية فى 2012، وفى خطب تصريحات الرئيس المنتمى للإخوان المسلمين وقادة الجماعة فى السنة التالية لانتخابه. الذى شهدناه خلال فترة حكم الإخوان خطابا دينيا يسوده إصرار مدهش على أن صاحبه يحتكر تعريف «شرع الله»، واتهام أى مخالف «بالكفر». والاتهام بالكفر موقف شديد العنف معاد تماما لجوهر الديمقراطية.
على ذكر الثقافة ..هل تابعت أعمال الروائيين الجدد الذين أضحت كتبهم تسجل معدلات الأعلى مبيعا ومعظمها يركز على قصص الرعب أو الخيال العلمي، وربما كان “الفيل الأزرق “ الذى تم تحويله إلى عمل سينمائى المثال الأبرز لتلك النوعية الجديدة التى فرضت نفسها على عالم الرواية؟ لقد تابعت هذه الظاهرة التى شكلها مجموعة من الكتاب الشباب، لكنى لم أقرأ أعمالهم .. لكنى أرى أنهم جزء وتعبير عن ظاهرة تتماشى مع كل ما قلناه. الشباب عندما ييأس من السياسة يلجأ للخيال العلمي.. هم يكتبون لمن يماثلونهم فى الفكر والحالة و المرحلة العمرية ويغذون عواطفهم بأشياء أخرى غير السياسة مثل الخيال العلمي.
ما آخر كتاب قمت بقراءته؟ دائما ما أقوم بقراءة أكثر من كتاب فى الوقت نفسه. أحب جدا الشاعر طاغور الهندي، وكذلك صلاح جاهين ورباعياته وإلى جوارهما أعود دائما إلى “فيض الخاطر “ مجموعة المقالات الأسبوعية التى كتبها والدى فى مجلة الثقافة.
القومية العربية.. فكرة ظللت مخلصا لها منذ نشأتك الأولى فى كنف أحمد أمين، الذى أرسى قواعد الثقافة العربية الحديثة.. ثم جاء انضمامك إلى حزب البعث الذى رفع لواء القومية العربية كمبدأ ومستقبل حياة ..كيف جاءت رحلتك مع البعث؟ تعرفت على حزب البعث وكنت طالبا فى كلية الحقوق من خلال الطلاب البعثيين فى الجامعة، والذين كانوا حريصين على ضم طلاب مصريين للحزب، فقد كان ميشيل عفلق يقول إنه لا أمل للحزب ونجاح أفكاره إلا إذا تم افتتاح فرع له فى مصر. وقد كنت من أوائل المصريين الذين التحقوا بالحزب، وقد أقنعنى بالالتحاق به تحديدا صديقى الدكتور على مختار، رحمه الله، وقد كان شابا دمث الخلق قوى الشخصية وكنا أصدقاء منذ المرحلة الثانوية. وبرغم وجوده فى الحزب قبلي، فإن الشباب العربى المنتمى للبعث فى جامعة القاهرة اختارنى رئيسا للحزب فى مصر، لأن عليا لم يكن قد أنهى دراسته بعد فى كلية الطب. بينما كنت أنهيت دراستى بكلية الحقوق. لم تنضم أعداد ضخمة من المصريين إلى حزب البعث آنذاك.. فقد تراوحت الأعداد وقت حل الحزب بعد الوحدة بين مصر وسوريا 1958 من 200 إلى 300 شخص فى تقديرى المتواضع. وكانت تضم مجموعة من الفلاحين والعمال المستنيرين سياسيا بالإضافة إلى الطلبة. وقد اتصلنا بشخصيات عديدة، منها من انضم للحزب رسميا ومنها من ظل على تعاطفه مع الفكرة، ومن هؤلاء أحمد بهاء الدين الذى ظل وفيا للفكر القومى العربى دون أن يلتحق بحزب البعث. وممن انضم للحزب سليمان فياض رحمه الله.
وإلى متى ظللت منضما للبعث؟ لقد ظللت فى الحزب حتى تم حل حزب البعث فى مصر، وذلك بناء على الاتفاق الذى تمت بمقتضاه الوحدة، حيث أوجب حل الأحزاب. وقد علمت بنبأ حل الحزب بينما كنت على المركب فى طريقى إلى إنجلترا لإتمام البعثة. لكنى وبينما كنت هناك فى إنجلترا التقيت عددا من الطلاب البعثيين لم تعجبنى أفكارهم وطريقتهم التى تعتمد على السفسطة، فتقدمت رسميا باستقالتى إلى الحزب الذى كان ما زال مستمرا فى العمل فى بعض البلدان العربية. فى عام 1963 دعيت لحضور مؤتمر للطلبة العرب فى لندن، وقدمت فيه محاضرة، انتقدت ميثاق عبد الناصر الذى أصدره 1962 وامتدحت فى تلك المحاضرة البعثيين ،مؤكدا أنهم سبقوا عبد الناصر فى طرح الوحدة العربية. وبينما كنت عائدا إلى مصر تم استقبالى فى المطار بشكل سيىء. وعندما كنت مسافرا 1966 لمؤتمر قابلتنى مشكلة فى الحصول على تأشيرة خروج فلجأت إلى خالد محيى الدين، وكان صديقا لشقيق أحد الأصدقاء، وعندما ذهب للقاء شعراوى جمعة أخبره بأن الإجراءات المتخذة ضدى ترجع لأننى بعثي، وفوجئت بخالد محيى الدين يخبرنى بأن السماح لى بالسفر يشبه الولادة المتعثرة، وكنت دائما تحت أعين النظام فقد فوجئت بعد حصولى على الدكتوراه بأحد الأساتذة يخبرنى بأن النظام يريد أشخاصا مثلى، يتعاونون معه، والتقيت بالفعل بأحد المسئولين فى منظمة الشباب الذى تناقش معى فى عدة أمور وعرفت بعدها أنه قال لزميلى «إنت جايب لى واحد بعثي».
إذن هل هناك أمل فى أن يعود الشعور القومى العربى ويستعيد عنفوانه؟ هناك استمرار للشعور القومى العربى فى نفوس العرب، وأمل الوحدة لا يزال يطوف بأذهانهم بين الحين والآخر، وعلى الرغم من الجهود طوال 180 عاماً لتقطيع أوصال الأمة العربية، فإن الكتاب العربى الذى يصدر فى الجزائر أو فى تونس، يقرأه أهل الكويت والبحرين، وما يكتبه الشاعر الفلسطينى أو السورى يتحول إلى أغنيات يتغنى بها المصريون والسودانيون. كما أن الحركة القومية العربية، بعد أن كانت تتصدى فى الماضى للاحتلال العسكرى أو للسيطرة السياسية والاقتصادية، أصبح مستقبلها اليوم يتوقف على مدى نجاحها فى التصدى لقضية الوجود نفسه، أى الهوية الثقافية هكذا أنظر إلى ما تتعرض له القومية العربية اليوم من تهديد، فالغضب ممّا يحدث للغة العربية حالياً، أشبه بالغضب من الاعتداء على الشرف، ومن تسميتنا بغير أسمائنا، ومن تغيير المقررات المدرسية، الأمر الذى ينطوى على تزوير للتاريخ من أجل إجبارنا على التنازل عن هويتنا، والتسليم عن طيب خاطر بما يقوله أعداؤنا عنا، وقبول ثقافتهم كأنها ثقافتنا، ومعاييرهم فى الصواب والخطأ كما لو كانت معاييرنا. لقد طرأ لون من التدهور على الشعور القومي، وعلى الإيمان بالقومية العربية وبضرورة الوحدة، وجعل للاعتبارات الاقتصادية الغلبة على أى اعتبارات أخرى فى سلوك الدول والأفراد على السواء، ومع كل هذا فلا موجب فى رأيى لأن نستسلم لليأس من إمكان حدوث صحوة حديثة لفكرة القومية العربية والوحدة.
تحدثت عن والدك فى أكثر من مناسبة ولكن أعتقد أنه مع كل يوم يمر تولد مشاعر أخرى وربما تطورت نظرتك لأبيك؟ كلما مر الوقت أقدر «أبويا» أكثر وأفهمه أكثر.. أصبحت أكثر شغفا بكتابه “فيض الخاطر” الذى يضم مقالات له فى شتى الموضوعات، وأصبحت أكثر حرصا على إعادة قراءتها لأننى وجدت شبها بين طريقة تفكيره وطريقة تفكيري، لم أكن قد انتبهت لذلك من قبل. ومنها أنه كان يحول المشكلة الصغيرة على مسألة فكرية أو أخلاقية.. وهذه نقطة تماس بيننا، إذ إننى أرى أيضا مثله المغزى الأخلاقى للظاهرة أية ظاهرة. كما أننى مثل أبى أحب سهولة الأسلوب فى الكتابة وأرفض التحزلق والصنعة فى الكتابة كما كان يفعل د. طه حسين. لكن كأب أرى أننى أفضل منه. فهو ينتمى على جيل لم تكن فيه طريقة التربية والاهتمام بالأبناء كما عهدتها أنا وأبناء جيلى وتعاملنا بها مع أبنائنا. على سبيل المثال كان جدى يجلس ليأكل بمفرده وبعدما ينتهى يجلس أولاده ومنهم أبى إلى طاولة الطعام..كان أبى أفضل منه نسبيا فى هذه النقطة وغيرها فى تعامله معنا. أمى كانت مظلومة شأن كل نساء زمانها.. وكانت تضع جل همها فى أبنائها.. كان أخى الأكبر محمد نناديه”حمادة”. وكان أبى عندما يناديها”أم حمادة” تشعر وكأنه يدللها .فقد كان فى الأحوال العادية ينادى عليها “يا ولد” .
لكن من خلال مذكراتك علمت أنها كانت شديدة الذكاء، وأنها اشترت البيت الذى تعيشون فيه من والدك بعد أن ادخرت ثمنه من مصروف البيت، وهى واقعة نادرة فى زمن “سى السيد”؟ أمى كانت واسعة الحيلة وكان ذلك لونا من التحايل على الوضع، فلم يكن للمرأة فى ذلك الزمان عمل أو مصدر دخل. ومن حسن حظها أن والدى لم يكن مهتما بموضوع الفلوس وكان مدركا لما تفعله ولم يعره اهتماما.
معظم المفكرين والمثقفين المصريين بداية من طه حسين فضلوا الارتباط بنساء أجنبيات. وارتبطت أنت بسيدة إنجليزية..هل جاء هذا من فكرة البحث عن امرأة تهتم بعقلها؟ اخترت زوجتى “جان” بناء على قصة حب، ولم يكن يدر فى ذهنى أننى سأرتبط بأجنبية.. وإلى جانب الحب وجدت أنها لا تمانع فى الحياة بمصر حتى إنها رفضت زيارة مصر قبل الزواج لتتعرف على المناخ الذى ستعيش فيه وثبت بالتجربة لى أنها بالفعل قادرة على التأقلم مع الحياة المصرية..كما أننى وجدتها امرأة طيبة القلب جذابة مغرمة بالأطفال، ذكية ومحبة للثقافة، حيث كانت تجيد الألمانية ودرست الأدب الفرنسى والفلسفة وعلم الاجتماع.
أرى أنها أتقنت اللهجة المصرية فهل أتقنت الطهو المصري؟ جان تعلمت العربية قراءة وكتابة. أما عن الطعام فقد تعلمت بعض الأصناف لكنها بشكل عام لا تهوى الطهو, لذلك هناك دوما من يساعدها.
عندما تزوجت من سيدة إنجليزية.. هل اعترض والدك أو والدتك على فكرة الارتباط بسيدة غير عربية؟ لقد تزوجت بعد رحيلهما.
ما بين جيل سى السيد وجيل القرن الحادى والعشرين..كيف ترى المرأة المصرية؟ فى واقع الأمر هى مصدر آخر من مصادر تفاؤلى بشأن مستقبل مصر. فالمرأة المصرية حققت تحررا نفسيا وعقليا حقيقيا سواء غطت شعرها بحجاب أم لا. وانتشر هذا التحرر جغرافيا وطبقيا ممتزجا بهذا الحياء المصرى المعروف لدى الفتاة، خلق شخصية فريدة ومتميزة للمرأة المصرية . وهذا ما شاهدناه عندما خرجت إلى ساحة الميادين فى 25 يناير، تشارك بقوة فى التظاهر ومداواة المرضى وترتيب الفاعليات.
أنت ككاتب تتميز بكونك لا تحتكر الحقيقة.. ودائما ما تطرح عدة آراء حول مسألة واحدة؟ أنا لا أحب الكاتب الذى يثق فى رأيه كثيرا ويحتكرون معرفة الحقيقة. أنا أثق فى أفكاري، ولكنى أؤمن بأن للحقيقة أوجها متعددة والماهر هو من يمسك بجزء منها، فاختلاف الرأى بين الناس لا يعنى التضاد, لكن أن كل واحد يعبر عن الحقيقة من زاوية بعينها ويكون على صواب.