قبل يومين من أداء أردوغان اليمين الدستورية أمام أعضاء البرلمان كرئيس مطلق الصلاحيات، صدر مرسوم حكومى بإقالة 18634 موظفا فى الجيش والقضاء والشرطة والتعليم والإعلام، ومنعهم من الحصول على أية تعويضات او معاشات، وسحب جوازات السفر من بعض هؤلاء، إضافة إلى مرسوم آخر ينظم بعض الأمور الشكلية فى العهد الجديد لتركيا فى ظل النظام الرئاسى التنفيذى الذى يحظى فيه الرئيس أردوغان بصلاحيات تنفيذية واسعة، بل كاسحة حسب تعبير إحدى القنوات التليفزيونية الأوروبية الشهيرة، فضلا عن تأثير قوى فى أعمال القضاء، حيث للرئيس الحق فى اختيار 6 قضاة من بين 13 قاضيا يمثلون المجلس الأعلى للقضاة والمدعين الذى يدير أعمال هذه السلطة. مراسيم رئاسية
صدور المراسيم بهذا الشكل فى ظل حالة طوارئ تعيشها تركيا منذ حوالى العامين، يعطينا لمحة سريعة حول الطريقة التى سُيدار بها هذا البلد تحت رئاسة أردوغان لمدة خمس سنوات، وقد تمتد إلى ولاية ثانية حتى 2028. ففى ظل التعديلات الدستورية التى تم الاستفتاء عليها فى إبريل العام الماضى، ألُغى منصب رئيس الوزراء، وتحول النظام السياسى من برلمانى إلى رئاسى واسع الصلاحيات، وأهم ما فيه أن البرلمان ليس من صلاحياته مراقبة أعمال الرئيس أو محاسبته، اللهم إلا إذا ثبت قيامه بفعل يمثل خيانة، وهو أمر يصعب تطبيقه على حالة الرئيس أردوغان نظرا للسيطرة الفعلية على أعمال البرلمان من قبل حزب العدالة والتنمية الذى يرأسه أردوغان نفسه، الذى فاز ب 295 مقعدا فى البرلمان من إجمالى 600 مقعد، حيث يتيح الدستور المعدل أن تستمر علاقة رئيس الدولة بالحزب الذى يرأسه أو ينتمى إليه، وهو أمر يؤثر حتما على حيادية منصب الرئيس.
وعودة إلى المرسوم المشار إليه آنفا، فنحن أمام عملية تصفية حسابات لم تتوقف مع كل مواطن يشتبه أنه معارض للرئيس أو ربما تعاطف فى يوم ما مع فتح الله كولن المتهم بأنه وراء محاولة الانقلاب الفاشلة التى جرت وقائعها قبل عامين. وقد وصل عدد الذين تمت إقالتهم من جميع مؤسسات الدولة إلى أكثر من 140 ألف تركى، باتوا بلا مورد رزق، أو بعبارة أخرى بمثابة قنبلة موقوته قابلة للانفجار فى وجه النظام ورئيسه. وإلى جانب هذا المرسوم، صدر مرسوم آخر أغلق اثنتى عشرة جمعية وثلاث صحف وقناة تليفزيونية، والمبرر هو نفسه؛ أى الانتماء إلى حركة فتح الله كولن.
إصدار المراسيم الرئاسية حق لأردوغان دون الرجوع إلى البرلمان، سواء مد حالة الطوارئ لمدة ستة أشهر، وتشكيل الحكومة واللجان الاستشارية فى مجالات الحكم المختلفة، وترقية الموظفين وإقالتهم، ووضع السياسات وتنفيذها بدون أى حوار مع البرلمان، والذى يظل له إصدار القوانين لا سيما قانون الميزانية العامة، لكن بالتشاور مع الرئيس. مثل هذه الحكم المطلق يمثل نقلة نوعية فى حياة تركيا، والتى اعتاد مواطنوها قدرا من الحريات والمشاركة السياسية ووجود برلمان فاعل ومؤثر على عمل الحكومة. من هنا يتحدث المعارضون عن طور جديد من الاستبداد السياسى وحكم الفرد لا علاقة له بتراث تركيا القومى الحديث الذى يقترب من قرن كامل. فضلا عن أن تحالف حزب العدالة والتنمية مع الحزب القومى فى البرلمان، الذى حقق 49 مقعدا، وهو الحزب المتشدد سياسيا والمناهض لحقوق المواطنين ذوى الأصول الكردية، من شأنه أن يدفع إلى إصدار تشريعات تُضّيق المجال العام أكثر مما هو مقيد بالفعل، وأن تنهى تماما القيم الأتاتوركية التى ظلت تحكم الحياة السياسية منذ قرن تقريبا.
لكن من جانب آخر تبدو هذه المعارضة، والمشكلة تحديدا من حزب الشعب الجمهورى وحزب الخير وحزب الشعوب الديمقراطية المناصر لحقوق الأكراد، ليست بالقدر الكافى من الشعبية والقاعدة الجماهيرية لمناهضة سياسات أردوغان سواء داخل البرلمان أم خارجه، وبما يوفر لأردوغان وحزبه فرصة أكبر للمضى فى ترسيخ تركيا كنظام رئاسى هو أقرب فى مضمونه وفى طريقة أدائه إلى حكم الإمبراطوريات التى لا تعرف التنوع ولا المشاركة السياسية بمعناها الحديث.
وعود رئاسية اقتصادية
لقد وعد أردوغان شعبه فى أول خطاب رئاسى له بأن يحول تركيا إلى اقتصاد قوى من بين أكبر عشرة اقتصادات عالمية، وأن تتم السيطرة على معوقات الاستثمار بسرعة ودون قيود، وهو من أنصار إبقاء سعر الفائدة منخفضا، برغم ارتفاع نسبة التضخم إلى 15 % فى مارس الماضى، وهى نسبة عالية لم تحدث طوال الخمس عشرة عاما الماضية، ويتطلب الحد منها رفع سعر الفائدة وليس خفضها، كما يطالب بذلك محافظ البنك المركزى التركى. ومن المفارقات هنا أن الوضع الاقتصادى التركى يشهد حالة تراجع على عكس ما كان عليه الوضع مع بداية حكم العدالة والتنمية قبل عقد ونصف العقد، فقد ارتفعت نسبة البطالة لتصل إلى 10 فى المائة، وانخفضت الليرة 23 % من قيمتها أمام الدولار الأمريكى منذ مطلع هذا العام، وارتفع عجز الحساب الجارى التركى إلى 4.8 مليار دولار، مقارنة ب 4.5 مليار دولار فى الشهر السابق، كما تراجع التصنيف الائتمانى للاقتصاد التركى، حيث خفضت وكالة «موديز» فى نهاية مايو الماضى تقديراتها لنمو الاقتصاد التركى لعام 2018 من 4 % إلى 2.5 %. كما قامت بتخفيض 17 بنكًا تركيًّا ومؤسستين ماليتين أخريين، وفعلت الأمر نفسه وكالة التصنيف «فيتش» حيث قيّمت 25 بنكًا تركيًّا فى حالة سلبية، وبررت الأمر بتقلب أسعار العملة التركية والفوائد. كما ارتفعت المديونية الكلية التركية إلى 895 مليار دولار، منها 600 مليار على البنوك التركية، والباقى ديون على القطاع الخاص.
مغامرات عسكرية وسياسات انتقامية
ومثل هذه الإحصاءات وغيرها تبرز الوضع الحرج الذى بات عليه الاقتصاد التركى نتيجة المغامرات العسكرية فى الإقليم، والانقضاض على الحريات، والسياسات الانتقامية ضد المؤسسات الرئيسة كالجيش والقضاء والشرطة والإعلام بذريعة الانتماء لحركة معارضة، والتدخل غير المحسوب من الحكومة لمعالجة التراجع الاقتصادى، وخروج الاستثمارات لا سيما الإماراتية والسعودية نتيجة الخلافات السياسية حول العديد من القضايا الإقليمية.
وعود التحسن الاقتصادى السريع التى ألزم بها أردوغان نفسه، ليست قضية فنية وحسب تتعلق بمعدلات الفائدة أو تيسير الإجراءات للمستثمرين برغم أهميتهما، بل قضية تتعلق أساسا بأسلوب إدارة الدولة ومدى استقلالية المؤسسات فى القيام بواجباتها، وحيادية منصب الرئيس وعدم التفرقة بين المواطنين وفقا للأهواء والذرائع غير المقننة. إن نظرة تأمل سريعة على هذه المجالات الحيوية للحالة التركية الراهنة تكشف عن خبرة سلبية شديدة، هى نتيجة مباشرة للسياسات التى طبقها أردوغان طوال السنوات العشر الماضية، لذا فإن الوعود التى ذكرها فى خطابه الرئاسى الأول لما سماه بالحفاظ على حقوق المواطنين الأتراك، وتعزيز مفهوم الدولة الاجتماعية التى توفر الفرص لكل المواطنين بغض النظر عن العرق والمذهب والمعتقدات، والعمل بشرف ونزاهة لاستعادة مجد الجمهورية، والعمل الدؤوب لإعلاء شأن الجمهورية، والوفاء بمبادئ العلمانية والدولة الأتاتوركية، تبدو جميعها وعودا فارغة المضمون وبلا أساس واقعى.
تناقضات السياسة الخارجية
ناهيك عن التناقضات والمفارقات الهائلة التى تعرضت لها السياسة الخارجية التركية فى السنوات السبع الماضية، والتى اتسمت بالتغيرات السريعة والتحولات فى التحالفات والبراجماتية الشديدة وعدم وضوح الأولويات والفعل ونقيضه. ولعل التدخلات التركية الفجة فى الشأن السورى والالتحاق بتفاهم ثلاثى مع كل من روسيا وإيران برغم عضوية أنقرة فى الناتو، وهو الحلف المتوجس من السياسة الروسية عامة، والساعى إلى مواصلة الضغط عليها بوجه خاص لاعتبارات إستراتيجية، والدخول فى مواجهة مع الولاياتالمتحدة بشأن أكراد سوريا، والتحركات فى أكثر من اتجاه لاستعادة ما أسماه أردوغان نفسه مجد الإمبراطورية العثمانية ولكن بأسلوب جديد، ودعم منظمات إرهابية مصنفة عالميا كفروع للنصرة والقاعدة وحشد مجموعات من المرتزقة واستخدامهم فى احتلال أجزاء من بلد جار، وانتهاك حقوق المواطنين الأكراد فى تركيا ووضع مناطقهم جنوب البلاد تحت طائلة العقوبات والضغوط الإنسانية الهائلة، كل ذلك وغيره أفقد تركيا جزءا كبيرا من جاذبيتها كوجهة للاستثمار، وأفقدها أيضا صورتها التى سعى أردوغان نفسه لبلورتها عن بلاده كقوة استقرار إقليمية، حيث تحولت عمليا إلى قوة مثيرة للفوضى وجالبة للمشكلات لنفسها ولغيرها فى الآن ذاته. وفى ظل صلاحيات رئاسية بلا قيود من أى نوع، وطموحات شخصية عاتية، ستظل تركيا شوكة قاسية فى عصب الاستقرار الإقليمى.