أتيح لعدد كبير من الأدباء والمثقفين العرب أن يقيموا تحت سماء بلادنا، وأن ينخرطوا فى حياتها، لا فرق بينهم وبين أبناء الوطن. ومن يراجع الدوريات الصحفية ودور النشر المصرية بقطاعيه العام والخاص، أو يطلع على الأسماء الغربية التى حصلت على شهاداتها العالية من الجامعات المصرية، واشتركت فى أنشطتها الثقافية، سيجد أن نسبة كبيرة من العرب.
ومن عز عليهم أن يكونوا من هؤلاء، فلن نعدم أن نجد منهم من كل الأقطار العربية من تكونوا وهم فى بلادهم بالثقافة المصرية، منذ بداية نهضتها الحديثة فى القرن التاسع عشر.
وبفضل هذا التكوين الذى يتسم بنقاوة الفكر واتساع الأفق، قدموا الدراسات التى لا غنى عنها عن الأدب العربى والآداب العالمية، التى تفصح عن فهم عميق لهذه الآداب، فى أبعادها التاريخية. من هؤلاء الأدباء العرب الذين نذكرهم بكل تقدير وإجلال، فى هذه الظروف الصعبة القاتمة التى يمر بها اليمن، الشاعر والكاتب اليمنى عبد العزيز المقالح، الذى ولد فى أواخر الثلاثينيات من القرن الماضى فى قرية المقالح، وحصل على درجة الدكتوراة من جامعة عين شمس، بعد أن أنهى دراسته فى دار المعلمين بصنعاء، وأقام فى القاهرة إقامة متصلة أكثر من عشر سنوات، بعد بداية الثورة اليمنية من منتصف الستينيات حتى 1977، اختلط فيها بالأوساط الثقافية والعلمية، ولو أن علاقة المقالح ببلادنا ترجع إلى سنة 1958، بل ويمكن القول إنها بدأت فى 1952، مع ثورة 23 يوليو التى غيرت وجه المنطقة، وأيقظت فيه فى صباه، كما أيقظت فى الكثير من أبناء الأقطار العربية، الوعى السياسى، أو نبت تحت تأثيرها وعيهم السياسى وحسهم القومى.
وعبد العزيز المقالح يعد هذه السنوات أجمل سنوات العمر التى لا تمحى من نفسه. ذلك أنه خلال هذه المرحلة التى يزمع تسجيلها فى سيرته الذاتية، تعرف على كتابها وشعرائها ونقادها الذين كانوا يحملون له أطيب المشاعر، اعترافا بأفضاله الجمة فى تجميع الأدباء من كل الاتجاهات، وفى إثراء الثقافة العربية بكتاباته الأدبية والروائية التى تنبع من حياة البسطاء الذين ينتمون للقاعدة العريضة للمجتمع، ويتطلعون إلى الحرية والتقدم والتجديد الذى يبعث فيه التشكيل الفنى الوعى الإنسانى. وفى القاهرة نشر كتاب الهلال لمقالح فى 2008 كتابه «هوامش يمانية على كتابات مصرية». ويذكر الذين كانوا يلتقون بانتظام بالمقالح فى منتدى يوم الثلاثاء الذى كان يعقده فى بيته بالدقى كل أسبوع، أنهم كانوا يطلقون عليه اسم طه حسين اليمن، للشبه الذى يرونه بينه وبين عميد الأدب العربى
صاحب «الأيام»، فى الإيمان بالنهضة التى تصنع فيها اللغة الحياة والحضارة، وفى الدور الذى يقوم به للثقافة العربية فى جوهرها لا حواشيها، وبمنهجه التحليلى فى الكتابة التى تقسم الثقافة العربية إلى ثقافات سلفية، ووسطية، ومتماهية مع الآخر، وإن كان البعض يرى بحق أن هذه التقسيمات شكلية، لا ينفى تنوعها وحدتها الكلية المتماسكة، التى تنشأ من طبيعة تكوينها كعناصر متفاعلة وليست متعادية، لكل منها تميزها وقيمتها المضافة التى يلتقى فيها التحديث العصرى مع مقومات الأصالة الوطنية والروحية.
ولم تكن القاهرة وحدها المدينة التى تعلق وافتتن بها عبد العزيز المقالح، بعد أن طاف فى حياته بكثير من المدن العربية والأجنبية، واستوحى منها أشعاره وخواطره، موطدا علاقته بأعلامها، والكتابة عنها وعنهم، التى تنبئ عن حسن دقيق، وفى مقدمة هذه المدن بالطبع مدينته التاريخية الأسطورية صنعاء التى تأسست فى القرن الخامس قبل الميلاد، وتحتل فى أحلامه وواقعه شغاف قلبه، لا يرقى إليها فى مروجها ونضارتها وسحرها مدينة أخرى فى الدنيا.
يلى صنعاء عند عبد العزيز المقالح عدن، أو جنة عدن، التى تحرسها الملائكة، ويغسلها البحر فى اليوم الواحد مرتين، وشغف بالكتابة عنها قديما اليونان والرومان. ومن المدن العديدة التى شدت انتباه عبدالعزيز المقالح، وكتب عنها كتابة مبدعة، بيروت التى عرضها فى عصرها الذهبى فى الستينيات، حين كانت حركات التجديد فى الإبداع العربى، التى تخرج على القوالب التقليدية المتوارثة، تتألق تحت سمائها، وتمنى المقالح وهو يسير على أرضها زيارة ميخائيل نعيمة فى منطقة الشخروب، ورؤية بسكانتا التى ولد فيها جبران خليل جبران، واستلهم من أجوائها جمال الكلمة وإيحاء الريشة. وهناك أيضا البصر مدينة النحو العربى. والخرطوم أغنى المدن العربية بالمياه، ومدينة ود مدنى التى تتألف من أحياء بنيت على أحدث الطرز المعمارية وأحياء استخدم فى بنائها الآجر واللبن، وأكثر ما استرعى انتباه المقالح فيها إجادة أهلها للغتين العربية والإنجليزية.
ومع تسليم عبد العزيز المقالح بأن لهذه الأماكن تأثيرها على النفوس يفوق تأثير البشر، ففى تقديره أنه ما كان يمكن لها أن تمتلك مثل هذا التأثير إلا بفعل هؤلاء البشر الذين تنعكس طباعهم عليها. وعلى كثرة اتصال عبد العزيز المقالح بالخارج، فإنه لم يفقد لوهلة واحدة صلته الحميمة بالداخل، ولا خفتت آماله العراض أن تنعم الأقطار العربية كلها بالعدل والحرية، واقتحام عالم الصناعة والبناء، انطلاقا من أن الأصالة تحافظ على المقومات الوطنية، وأن المعاصرة تحررنا من التخلف. ومن آرائه السديدة أنه ليس لسبق التيارات الفنية قيمة، ما لم ترتبط بأعمال مبدعة، تكون ذات وجود وتأثير.
وأشعار عبد العزيز المقالح بشهادة الشعراء والنقاد ترتبط بالتاريخ والتراث الشعبى والقضايا القومية، فى غير انفصال عن الحداثة، أو ابتعاد عن الرومانسية. ينبض هذا الإنجاز الشعرى لمقالح بالحب، ويفعم بالهيام بالقرى القديمة ذات الكيان القبلى، والمدن المتطورة، والشخصيات الماضية التى تشكل روح الوطن. أما عن حياة عبد العزيز المقالح فى اليمن، فيعتبر عملها أو أيقونتها، لا يكتمل لأحد زيارة اليمن إلا بالالتقاء به والحوار معه، سواء من كانوا على علاقة سابقة به أم كانوا من قراء أدبه، دون معرفة شخصية به. وقد حصل عبد العزيز المقالح على عدد من الجوائز والأوسمة من اليونسكو، والحكومة الفرنسية، والملتقى الشعرى العربى بالقاهرة، واللوتس، والعويس وغيرها.