الكثير من الدراسات التى اهتمت بتفسير أسباب الثورات الشعبية ركزت على دافعيْن كبيرين، كل منهما يتضمن تفاصيل عديدة، أولهما دافع التهميش السياسى والثانى دافع الحرمان الاقتصادى. التهميش السياسى يُعنى أساسا بغياب الحريات وإهمال حقوق المواطنة وتغييب المشاركة السياسية الفاعلة. أما الحرمان الاقتصادى فمركزه انتشار الاستغلال وزيادة الفوارق بين الطبقات الاجتماعية واحتكار الثورة الوطنية بيد قلة صغيرة للغاية. وبرغم أهمية هذين الدافعين إجمالا، فإنهما يظلان قاصريْن فى تفسير خروج المصريين عن بكرة أبيهم فى 30 يونيو 2013 لإسقاط نظام الإخوان بعد عام واحد فقط، شكل لعموم المصريين كابوسا كبيرا، وخطرا داهما على بنية المجتمع المصرى وهويته الحضارية والثقافية.
نعم تثور الشعوب ضد حكامها لأسباب اقتصادية وأخرى سياسية، وكلاهما يحفزان الغضب الشعبى ويدفعان الناس للمطالبة بتحسين أوضاعهم والحصول على حقوقهم المشروعة فى حياة أفضل ومشاركة سياسية مناسبة. إنهما يصلحان إلى حد كبير فى تفسير بعض الذى جرى فى 25 يناير وما بعده، برغم اقتناعنا التام بأن هذه التحركات الشعبية التى بدأ بعضها عفويا، ومعظمها بتنظيم وتخطيط كُشف لاحقا، وقعت فريسة لتوجيهات وتدخلات خارجية لم يكن يهمها أو يعنيها حقوق المصريين ومطالبهم المشروعة، وإنما يعنيها تحقيق خططهم المباشرة فى تغيير وجه الحياة المصرية والعربية معا. ومع تأكد تلك التدخلات الخارجية المعجونة بعمالة البعض، وظهور الكثير من الانحرافات لدى قوى سياسية تخلت عن وطنيتها، أضاف المصريون أيضا بعدين آخرين للثورة الشعبية العامة، لإصلاح ما كان، وباتا يشكلان ميراثا خاصا للثلاثين من يونيو؛ أولهما الثورة على خطر فقدان الهوية، والثانى الثورة على المخاطر الداهمة التى قد تطيح ببنية الدولة ومؤسساتها. وكلا الدافعيْن مرتبطا أساسا بالوعى والإدراك الجمعى الذى يتأسس على الخبرة المشتركة فى العيش تحت مظلة فكرية وقيمية وسلوكية، تمثل معا نظام الحياة الذى لا يمكن لأحد أن يضحى به من أجل شعارات بائسة وأكاذيب مفضوحة، بل يضحى من أجل الحفاظ عليه مهما كان الطرف الآخر قويا أو يدعى ذلك.
فكرة الوعى بالوطن وضرورة حمايته من عبث الإخوان ومن وراءهم هى التى جعلت التحرك الشعبى أقرب إلى فعل فطرى طبيعى، لقد نزل المصريون وهم مقتنعون أنهم يدافعون عن حياتهم وحريتهم ومصيرهم، ويدفعون فى الآن نفسه خطر التسلف وفقدان الهوية الوسطية والوقوع فى براثن التطرف والتشدد الدينى والسلوكى، وفقدان الدور القومى. لقد صُدم المصريون جميعا من التحركات الإخوانية لحماية التنظيمات الإرهابية وإفساح المجال أمامها للتوطن والتغلغل فى بنية المجتمع والمؤسسات دون حسيب أو رقيب. فقد تجمعت المؤشرات والأحداث لتؤكد أن الإخوان يخططون لجعل التنظيمات المتطرفة والإرهابية بمثابة قوة عسكرية توازى المؤسسات الأمنية الشرعية والدستورية، وتأتمر بأمر مكتب الإرشاد لإحكام السيطرة على حركة المجتمع. ولم يكن هناك سوى بديل واحد، بديل المواجهة الصارمة من خلال الفعل الشعبى المضاد والواعى بقوته وجبروته.
باحثو الثورات الشعبية يؤكدون أن النزول الجماهيرى الحاشد والطوعى ومتعدد الطبقات والانتماءات العلمية والاجتماعية والمناطقية، والذى تتشارك فيه المرأة بكل جسارة مع الرجل، لا يحدث إلا فى ظل قناعة داخلية لكل فرد بأنه يحمى مصيره ومصير بلده معا. هنا يحدث أعلى درجات الاندماج والتشابك بين هوية الفرد ومصالحه الذاتية، وبين هوية المجتمع ككل ومصالحه العليا الجماعية، وهنا أيضا تهون الصعاب وتحدث التجليات السياسية والإنسانية من أجل الوطن ومن أجل مؤسساته الرئيسية.
هذه الحشود التى تقترب من 25 مليون مصرى أو أكثر قليلا وملأت الساحات فى كل محافظات مصر ونادت بمطلب واحد فقط، وهو رحيل حكم الإخوان وإسقاط مشروعهم الكارثى فى تحويل مصر إلى تابع ذليل للتنظيم الدولى للإخوان، ورهن إرادة الدولة المصرية بإرادة الرئيس التركى المسكون بهاجس الخلافة والسلطنة، لم تفعل ثورتها لأن هناك من أقنعها خلسة أو دفعها جبرا على هذا النزول الحاشد، كما يدعى الإخوان وأنصارهم ضيقو الأفق، فما حدث فى شوارع مصر وميادينها أكبر بكثير من كل الادعاءات الفارغة التى سعت إلى امتهان هذا الفعل الشعبى الثورى غير المسبوق تاريخيا، ووصفه بأنه انقلاب عسكرى.
تشريح الانقلابات العسكرية المعروفة تاريخيا سواء فى بلدان أمريكا اللاتينية أم فى عدد من دول قارتى آسيا وإفريقيا منذ الخمسينيات فى القرن الماضى يفضح هؤلاء الذين ينكرون على المصريين ثوريتهم وثورتهم. والمتفق عليه فى دراسات الانقلابات العسكرية أنها تتسم بأربع سمات، أولها أنها عمل سرى بحت يقوم به ويعد له عدد محدود للغاية من القائمين على الجيش، وثانيها أن تحرك هؤلاء يكون فى صورة مفاجئة للجميع سواء فى الداخل أم فى الخارج. وثالثا يتم تحييد كل النخبة السياسية فى البلاد وإقصاؤها تماما من المشهد، ورابعا يتم وقف العمل بالدستور والقوانين الرئيسية فى الدولة. وعادة يتم تبرير هذه الحركة السرية بعدة دوافع إصلاحية ترضى عموم الناس ظاهريا، وفى كل الانقلابات المشهودة تتم مصادرة حقوق المواطنين فى المشاركة وتُعلق الانتخابات وتُحظر الاجتماعات الجماهيرية وتدخل البلاد نفقا مظلما.
30 يونيو 2013 كان على النقيض من كل ذلك، لم تكن هناك سرية أو مفاجآت أصابت الجميع بالصدمة. التحركات الشعبية المصرية كانت علانية جهارا نهارا، استمرت طوال عام لم تنقطع المظاهرات والاحتكاكات مع الرئيس الإخوانى وجماعته. كانت شعاراتها معروفة ومحددة، نادت جميعها بوقف استهداف المؤسسات وإلحاقها بجماعة الإخوان، كالذى أعلن عنه بالفعل بالنسبة للقضاء والمحكمة الدستورية العليا، واحترام حرية الإعلام، ومشاركة القوى السياسية فى كل أبعاد العملية السياسية، وعدم الخضوع لقوى خارجية، وعدم التنازل عن حقوق المصريين للغير، والالتزام بالهوية الوطنية، وحق القوى السياسية المختلفة مع الإخوان فى أن تكون فاعلة وحرة فى حركتها وفى فكرها. هذه الشعارات والمطالب الأساسية وغيرها، جسدت حجم الخلاف الكبير بين الإخوان وحلفائهم من المتشددين والمتطرفين والساعين للانفراد بحكم البلاد والضرب بعرض الحائط مصالحه العليا، وبين كل القوى السياسية الوطنية المؤمنة بمصر وعروبتها ووسطيتها. وهكذا المظاهرات والحشود التى استمرت عاما كاملا وتوجت بمظاهرات 30 يونيو، كان يتم الإعلان عنها من قبل رموز سياسية من كل الاتجاهات تقريبا، وهدفها واحد لم يتغير ولم يتلون، وأصله حماية الدولة والمجتمع من السقوط والانهيار.
أما تحييد النخبة السياسية وإقصاؤها من المشهد فلم يحدث كما هى الحال فى الانقلابات العسكرية، فالذين ثاروا على حكم الإخوان هم الذين اجتمعوا معا تحت مظلة المؤسسات الرئيسية فى الدولة كالمحكمة الدستورية العليا والجيش حامى البلاد، والشرطة حامية الشعب وكل من الأزهر والكنيسة بما لهما من رمزية دينية وشعبية وحضارية، من أجل تصحيح الأوضاع وإعادة الأمور إلى مسارها الطبيعى والحفاظ على هوية الدولة والمجتمع، والتخلص من آفة التشدد الدينى والهوية المصطنعة التى أراد الإخوان فرضها عنوة على الناس. وهم أنفسهم برغم اختلاف مشاربهم السياسية والفكرية الذين أعلنوا خارطة الطريق لاستعادة مصر، كانت عناصرها متداولة بين المصريين قبلها بعام تقريبا، وحين أعلنت لم تجد من يعارضها أو يرى فيها أمرا زائدا يعطى ميزة لطرف على حساب آخر. ومع مرور الوقت ثبت التزام الجميع بخارطة الطريق فى مدى زمنى محدد وملزم للجميع، بما فيها وضع دستور جديد والعودة للمصريين للاستفتاء عليه وإقراره، والإعداد لانتخابات برلمانية ورئاسية وفقا للدستور بعد الموافقة الشعبية عليه. كما ثبت خيار حماية الدولة المصرية فى مواجهة كل من يعبث بها من الداخل أو من الخارج.
الثورات الشعبية هى حدث جلل يكتب بحروف من نور. ووقوف مؤسسات الدولة فى صف تلك الثورات ومطالبها وشعاراتها لا يقلل من قيمتها، أو يخصم من حيويتها، بل يؤكد شموليتها الثورية وصوابية توجهاتها. فالوطن هو الجامع للكل، أفرادا ومؤسسات، لا يمكن لأحدهما أن يلغى الآخر أو يعيش بدونه. وحدة المصير تدفع إلى التلاحم والاندماج، وهو ما كان فى الثلاثين من يونيو، وسيظل العاصم لمصر من كل الأخطار والتهديدات، ظاهرة أو باطنة.