من «شجرة» عدن إلى «أبوناشى» الكويت، مرورا «بحافة» طنجة و«نوفرة» دمشق، ومن «بيت فلسطين» إلى تحت السور بتونس، ومن «نوار» طرابلس حتى «عدود» نواكشوط، لم تكن المقاهى العربية مجرد أماكن مر بها زعماء ومناضلون وسياسيون ومفكرون لعبوا أدوارا مهمة فى تاريخ الوطن العربى الحديث، بل كانت تلك المقاهى شريكا مهما فى صنع هذا التاريخ. هنا فى كل ركن.. وخلف كل جدار وفوق كل مقعد من مقاعدها العريقة.. جلس على موائدها الزمان والمكان والإنسان فى عناق ما بين العراقة والنضال، والإبداع والأفكار.. لتشكل معا جانبا مهما من ذاكرة العرب الحية، التى تطل علينا من شركات «مقاهى» صنعت التاريخ.
«أبوناشى» الكويت من أشهر المقاهى العربية التى أسهمت فى صناعة تاريخ أوطانها، مقهى «أبوناشى» فى الكويت، وهو من أقدم المقاهى الكويتية، ويقع عند مدخل سوق التجار، بمدينة الكويت العاصمة، وقد تردد عليه الكثير من الشخصيات الكويتية المرموقة، كما تقول المؤرخة الكويتية غنيمة الفهد، ومنهم حاكم الكويت المؤسس الشيخ مبارك الصباح، حيث كان المقهى ساحة لنقاش القضايا الوطنية، وبرلمانا شعبيا بكل ما تعنيه الكلمة، كما كان شاهدا على تحولات سياسية مهمة فى التاريخ الكويتى نهاية القرن التاسع عشر، وطوال عقود القرن العشرين، فوق مقاعده تطرح قضايا جوهرية ومصيرية للنقاش، وتوضع لها الحلول، وتحت سقفه المصنوع من القش وجريد النخيل تبرم أهم الاتفاقيات، وتوقع أخطر المعاهدات، حتى أطلق عليه البعض «فرساى الكويت» نسبة إلى مدينة فرساى التى شهدت توقيع المعاهدة المعروفة. فوق مقاعد «أبوتاشى» بدأت المفاوضات عام 1920 بين الشيخ سالم المبارك الصباح وبين وفد الدويش بحضور الميجور مور المعتمد البريطانى فى الكويت آنذاك لتنهى هذه المفاوضات معركة الجهراء التى شهدت الكويت وقتها بين قوات الصباح الوطنية وميليشيات الدويش التى يدعمها الاحتلال البريطانى، وكانت هذه المعاهدة الأساس الذى بدأت الحركة الوطنية الكويتية بقيادة آل الصباح منه نضالها ضد المستعمر البريطانى.
«شجرة» اليمن يصف الكاتب اليمنى وئام سرورى «مقهي الشجرة» فى عدن بأنها من أهم المعاقل التى ساندت الحركة الوطنية فى عموم اليمن منذ تأسيسه عام 1952 على أيدى عبده العزعزى فى منطقة وادى تمر، وأطلق عليها مقهى الشجرة نسبة إلى شجرة غرسها مؤسس المقهى أمام المقهى وتعهدها بالرعاية حتى كبرت وصارت وارفة الظلال، وكان الرواد يعشقون الجلوس أسفلها. وقد شهد المقهى أحداثا سياسية عبر مراحل متعددة من تاريخ اليمن، كما احتضن فى جنباته روادا لعبوا أدوارا بارزة فى أحداث وطنية وسياسية فى كثير من المنعطفات التاريخية، خصوصا فى حقبة الكفاح ضد المستعمر الأجنبى إبان فترة الاحتلال البريطانى لعدن، فقد كان المقهى مركز تجمع للفدائيين من مختلف الجبهات، خصوصا فدائيى الجبهة القومية، وجبهة التحرير، كما شهد تأسيس التنظيم الشعبى الذى كان مهمته رصد تحركات قوات الاحتلال البريطانى الموجودة فى مركز الشرطة الذى يوجد بالقرب من المقهى، والقيام بمهام الاستطلاع لشن هجمات ضد قوات الاحتلال فيما بعد، وكان صاحب المقهى عبده العزعزى وهو محارب قديم شارك فى الحرب العالمية الثانية، يقدم للفدائيين الشاى والمأكولات على نفقته الخاصة، كما أسهم المقهى فى الحركة المسلحة لتحرير اليمن فى الفترة من 1964 حتى 1967 من خلال دعم الثوار بالمال والسلاح وتقديم المأوى لهم، وكذلك عمل غرفة صغيرة بالمقهى لإخفاء الثوار، وتغيير ملامحهم وهيئاتهم حتى لا يقبض عليهم جنود الاحتلال، وذلك بإعطائهم قمصان وفوطاً وشدات مختلفة تماما عما كانوا يرتدونها فى عملياتهم الفدائية، وكذلك توفير ممر خاص فى الجانب الشمالى للمقهى يعرفه الثوار فقط لتوفير إمكانية الهروب من القناصة الإنجليز إلى موقف السيارات القريب. كما كان العاملون فى المقهى يشكلون أفراد استطلاع للثوار والفدائيين لرصد تحركات قوات الاحتلال، قد سقط العديد من هؤلاء العمال برصاص جنود الاحتلال، ومنهم سعد غانم ومحمد منصور وعبده غالب وعبد المجيد سعيد، كذلك كان المقهى مقرا للمناضل الوطنى عبد الله مكرد الذى تم القبض عليه وتم اقتياده للسجن بعد أن أفزعت عملياته الإنجليز كان آخرها معركة بقذائف الهاون والرشاشات المتوسطة بين الفرقة الإنجليزية المتمركزة أعلى مبنى شرطة الشيخ عثمان وبين الثوار استمرت لأربع ساعات. أيضا كان المقهى مقرا لعدد من أبرز الشخصيات اليمنية منذ الستينيات والسبعينيات وحتى يومنا هذا ومنهم الرئيس الأسبق سالم ربيع على.
«بيت» فلسطين الكاتب الفلسطينى محمد سليمان يصف لنا واحدا من أشهر مقاهى القدس العريقة وهو مقهى بيت الفلسطينيين الذى تأسس عام 1917، ويقع ملاصقا لسور مدينة القدس عند باب الخليل، وقد شهد المقهى حسب سليمان تكوين طليعة حركة النهضة الفلسطينية التى قامت على مجموعة من مناضلى ومثقفى البلاد، وبين أروقته تخرج العديد من القيادات السياسية، وزعماء الأحزاب والحركات الثورية والمنظمات النقابية والمهنية، كما شهد المقهى من فوق مقاعده مولد أول انتفاضة 1919، ضد المحتل البريطانى، وكان من أبرز دعاتها الأديب خليل بيدس، وهو أول سجين انتفاضة فى التاريخ الفلسطينى، وكان المقهى ملتقى مشاهير الحركة الوطنية والفكرية الفلسطينية، سواء من داخل القدس أم من حيفا ويافا وعكا وغزة وغيرها، ومن أبرزهم أحمد الشقيرى، وأكرم زعيتر، وعبدالحميد ياسين، ورفعت الشهابى، وصالح الحسينى، وعزت القاسم، ود. إسكندر الحلبى، وعمر العزونى، ويوسف حنا.
«نوفرة» دمشق فيما يؤكد الكاتب السورى هشام عدرة، على عراقة وأهمية مقهى النوفرة الذى هو ذاكرة حية، حيث مرت خمسمائة عام كاملة على تأسيس المقهى فى دمشق القديمة، وتحديدا أمام الباب الشرقى للجامع الأموي، الذى يعد من أيقونات سوريا، ونسبت تسميتها إلى نافورة بارتفاع خمسة أمتار بجوارها، كان يغذيها نهر يزيد، الذى توقف عن الجريان منذ خمسين عاما، وقد اشتهر المقهى بالحكواتى الذى يحكى سير الأبطال الأوائل مثل عنترة بن شداد والزير سالم، وهو التقليد الذى مازال يحافظ عليه حتى الآن. لكن المقهى أيضا كان مقصدا لكثير من أبرز السياسيين السوريين، خصوصا خلال فترة الجمهورية السورية الأولى، حيث كانت مركزا للمناضلين ضد الاستعمار الفرنسى، خصوصا فى الفترة من 1932 إلى 1946، وقد توجت هذه الفترة بإعلان استقلال سوريا عام 1941، وكان من أشهر الشخصيات التى زارت المقهى رئيس سوريا الأسبق ناظم القدسى، ورئيس الحكومة السورى الأسبق خالد العظم.
«حافة» طنجة فى تأريخه لطنجة، يؤكد المختار لعروسى، الباحث المغربى، أن مقهى الحافة فى طنجة تم تشييده عام 1921 على هضبة تطل مباشرة على مضيق جبل طارق، أقرب نقطة التقاء بين الساحل الإفريقى والساحل الأوروبى على جانبى المتوسط، وهى أول مقهى عرفه المغرب، كما أنه يحظى بشهرة عالمية، وقد جلس على مدرجاته ونستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية، ليتأمل جبل طارق وهو يحتسى الشاى، وكان مقهى الحافة مركزا للسياسيين والمناضلين المغاربة، فضلا عن مشاهير السياسة قديما وحديثا، ومنهم كوفى عنان، أمين عام الأممالمتحدة، الذى كان يعشق الجلوس على صخوره وتأمل عناق المحيط الأطلنطى مع البحر المتوسط، كما اشتهر بأنه مركز للجواسيس خصوصا أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد شهد المقهى عقد لقاءات سرية عديدة للمناضل المغربى أحمد الريسونى، الذى قاد حركة التمرد ضد الاحتلال الإسبانى، كما كان المقهى أحد مراكز تهريب السلاح لأبناء الزعيم المغربى الشهير محمد عبد الكريم الخطابى. وكذلك شهد المقهى تجمعات عديدة لأنصار قائد مقاومة قبائل الأمازيغ ضد الاحتلال الإسبانى محمد أمزيان.
«سور» تونس يصف المؤرخ والباحث التونسى رشيد الزوادى مقهى «تحت السور» بأنه كان صوت الحرية التونسية منذ تأسيسه عام 1929 بمنطقة «باب السويقة» بمدينة تونس العاصمة، وقد اكتسب المقهى شهرته من كونه ملتقى النخبة التونسية الثقافية والسياسية الذين هاموا بالحرية، وواجهوا تحديات المستعمر الفرنسى، وكانت لهم ثورات وصولات عديدة وجريئة ضد هذا المستعمر، انطلقت من مقاعد المقهى العريق، لترفض محاولات الإذابة وطمس الهوية من جانب المستعمر، كما قاوم هؤلاء النخبة من خلال «جماعة تحت السور»، كل مظاهر وتداعيات الواقع التونسى المقهور بكل شجاعة وجرأة. وكان من أبرز هؤلاء الطليعة على الدوعاجى والهادى العبيدى ومحمد بن فضيلة، الذى اعتقله الاستعمار الفرنسى بعد قيادته لأحداث تسعة إبريل عام 1938 ضد الوجود الفرنسى، والذى بدأت انطلاقتها من «تحت السور»، وهناك أيضا محمد العربى المناضل الجزائرى الذى عاش فى تونس، وعلى الجندوى وعبدالعزيز العروى. مقهى «تحت السور» أيضا كان مقصدا دائما للشاعر المصرى من أصل تونسى، محمود بيرم التونسى، الذى تحدى الاستعمار الإنجليزى فى مصر، وكان أحد مناضلى ثورة 1919، وبسبب مواقفه الوطنية، نفاه الإنجليز إلى تونس ليعايش قضايا التحرر الوطنى فى مقهى «تحت السور»، ويندمج مع المناضلين التونسيين، ويكتب فى الصحف التى تدعو لتحرير الشعب التونسى، ويشارك فى الملتقيات والمنتديات التى ترفض ممارسات الجيش الفرنسى، سواء بالشعر أو المقالات أو الخطابة من فوق مقاعد مقهى «تحت السور».
«نوار» ليبيا يذكر الكاتب الليبى د. إبراهيم أبو القاسم، أن المقاهى الليبية ذات التأثير التاريخى محدودة، ويقع معظمها فى طرابلس العاصمة ومدينة بنى غازى، ومن أشهرها مقهى «جنات النوار»، بطرابلس الذى يعود تاريخ تأسيسه إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، وقد كان المقهى فى أيام الحرب الإيطالية، مقرا لكثير من المناضلين الليبيين ضد الاستعمار الإيطالى، من أمثال أمين مازن ومحمد الزوى، وعلى المصراتى، وخليفة التليسى، وأحمد الشاروف، وعبدالله القويرى وغيرهم، وقد لعب المقهى دورا مهما كمنبر ثورى، قام المناضلون الليبيون من خلاله بكشف الحقائق أمام الرأى العام الليبى، وحشد أبناء القبائل للنضال ضد الاستعمار.
«عدود» موريتانيا يرى الكاتب الموريتانى محمد بن بيه، أن مقهى «عدود» بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، الذى كان يضم الصالون الفكرى للمفكر الموريتانى محمد بن سالم بن عبد الودود، هو أبرز من لعب دورا تاريخيا مؤثرا فى مقاومة الاحتلال الفرنسى لموريتانيا، وذلك منذ تأسيسه عام 1933، حيث خرجت من بين أرجائه دعوات النضال، وقصائد التحريض على الثورة ضد المستعمر الفرنسى، لا سيما قصائد ابن الشيخ سيديا، والشيخ محمد المامى، وخطب محمد المهتار بن حامد، والدخيل بن السيد بابا، والشيخ محمد المأمون ضد الاستعمار وأطماعه. أيضا لعب الصالون دورا مهما فى حرب التحرير الكبرى ضد الاستعمار التى انطلقت فى منتصف القرن التاسع عشر، وكذلك ما عرف بحرب «شربة»، والمقهى الآن فضاء للنقاش والرأى الآخر، فيما يشبه ساحة برلمان شعبى.