برغم اعتباره من “موروثات” حقبة الحرب الباردة؛ فإن مصطلح “حرب الجواسيس” ربما يكون الأدق فى وصف ما يدور حاليا بين بريطانيا ومن ورائها عدد من الدول الغربية من جهة، وبين روسيا وريثة الغريم التقليدى للغرب خلال ما اصطلح على تسميته عالميا بالحرب الباردة، ونعنى الاتحاد السوفيتى السابق.
بدأت القصة فى الظهور للعلن صباح الاثنين 5 مارس الجاري، حين نقلت وسائل إعلام بريطانية عن شرطة ويلتشير، أن رجلا، لم تذكر اسمه حينها، نقل الأحد مع امرأة ثلاثينية إلى مستشفى فى جنوبإنجلترا فى “حالة حرجة”، بعد أن تسمما بمادة غامضة، مشيرة إلى أنه تم العثور عليهما فاقدين للوعى على مقعد فى مركز تجارى فى سالزبري.
كان هذا الإعلان الأول عن القضية التى سرعان ما تكشفت وقائعها بوتيرة متسارعة، لتورد هيئة الإذاعة البريطانية “بى بى سي” أن الجاسوس البريطانى السابق سيرجى سكريبال البالغ من العمر 66 عاما وابنته يوليا، 33 عاما أصيبا بالإغماء، بعد تعرضهما لمادة مشبوهة ونقلا إلى أحد المستشفيات، وأنهما يرقدان فى قسم العناية المركزة فى المستشفى، وتسعى الشرطة البريطانية إلى معرفة طبيعة المادة المجهولة التى تعرض لها الشخصان.
وتكشف «بى بى سي» عن أن سكريبال هو عقيد سابق فى المخابرات العسكرية الروسية جندته المخابرات البريطانية “MI6”، وتقاضى 100 ألف دولار مقابل تزويدها بأسماء الجواسيس الروس الموجودين فى بريطانيا. وكان قد حكم عليه بالسجن فى بلاده لمدة 13 سنة بعد انكشاف أمره وإلقاء القبض عليه عام 2006.
وأطلق سراح سكريبال فى إطار أكبر صفقة تبادل جواسيس بين الغرب وروسيا منذ نهاية الحرب الباردة عام 2010، بعد أن أصدر الرئيس الروسى حينذاك ديميترى ميدفيديف عفوا عنه. حيث كان سكريبال من بين أربعة جواسيس غربيين أطلقت روسيا سراحهم مقابل عشرة جواسيس روس قبض عليهم فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. رد فعل بريطانى سريع
لم يتأخر رد الفعل البريطانى بعد الإعلان عن الحادثة، وقال وزير الخارجية البريطانى بوريس جونسون، فى اليوم التالى مباشرة، وفى خطاب أمام مجلس العموم البريطاني: «أؤكد للمجلس أنه فى حال ظهرت أدلة تشير إلى مسئولية دولة، فإن حكومة جلالتها سترد بشكل مناسب وحازم». وأضاف “برغم أننى لا أوجه أصابع الاتهام لأية جهة الآن، فإننى أقول للحكومات حول العالم إنه لن تمر أية محاولة لقتل شخص بريء على الأراضى البريطانية دون عقاب”.
وأشار جونسون فى سياق حديثه إلى حادثة تسميم العميل الروسى السابق ألكسندر ليتفيننكو فى لندن بمادة البولونيوم المشعة فى 2006. فيما قال توم توجيندات رئيس لجنة الشئون الخارجية فى مجلس العموم: إن الأدلة تشير إلى ضلوع روسى فى حادث سالزبيري. إلا أنه قال “من المبكر تحديد ما إذا كان ذلك مؤكدا أم لا، ولكنه بالتأكيد يحمل بصمات هجوم روسي”.
روسيا تتنصل وبعيد ساعات من خطاب جونسون، أعلن الكرملين أنه لا يمتلك معلومات عن الحادث، الذى وصفه ب«المأساوي». وقال ديمترى بيسكوف، المتحدث باسم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فى مؤتمر صحفى “هذا الحادث مأساوي. لكن ليست لدينا معلومات حول الأسباب، وما فعله هذا الشخص”. وأضاف بيسكوف أن لندن لم تقدم أى طلب للحصول على مساعدة فى التحقيق الذى أطلقته الشرطة بعد العثور على الكولونيل السابق فى جهاز الاستخبارات الروسى البالغ من العمر 66 عاما. وأكد أن “موسكو مستعدة دائما للتعاون”.
سيناريو مكرر وأعادت هذه الحادثة إلى الأذهان حادثة اغتيال العميل الروسى أليكسندر ليتفيننكو بمادة البولونيوم المشعة التى وضعت له فى الشاى بلندن. وفى 2016 قال تحقيق بريطانى إن عملية القتل “ربما حدثت بموافقة” بوتين، وحددت أندرى لوغوفوى وديمترى كوفتون مشتبها بهما رئيسيين. وتسبب الحادث بأزمة دبلوماسية بين لندنوموسكو. وربما كان من أهم أسباب رد الفعل البريطانى “القوى والسريع” بحسب مراقبين، هو ما نظر إليه باعتباره رد فعل ضعيفا على “اغتيال ليتفيننكو” سمح بتكرار السيناريو مرة أخرى.
تصعيد بريطاني وبعد نحو أسبوع من الكشف عن الحادثة، وبعد أن انقضت مهلة حددتها لندنلموسكو لتوضيح كيفية استخدام مادة كيماوية «روسية الصنع» فى تسميم «سكريبال» وابنته، دون «اكتراث» روسي، أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماى عن حزمة قرارات ضد روسيا، إذ أعلنت طرد 23 دبلوماسيا روسيا من الأراضى البريطانية، ممهلة إياهم أسبوعا لمغادرة البلاد، واصفة إياهم ب “ضباط استخبارات غير مُعلنين”.
كما ألغت دعوة لوزير الخارجية الروسى لزيارة لندن، وقالت إن أيا من أفراد العائلة المالكة أو وزراء الحكومة البريطانية لن يحضر كأس العالم فى وقت لاحق من هذا العام، كما كان مقررا. وقالت الخارجية البريطانية: إن لندن دعت مجلس الأمن الدولى لاجتماع عاجل لإطلاع أعضائه على مسار التحقيق بخصوص الهجوم الذى تعرض له العميل الروسى السابق وابنته. وشملت الإجراءات التى أعلنتها بريطانيا: زيادة إجراءات الأمن على الرحلات الخاصة القادمة من روسيا والجمارك والشحن، وتجميد أصول لروسيا فى بريطانيا، إذ وجدت أدلة على أنها قد تستخدم لتهديد حياة أو ممتلكات المواطنين أو المقيمين فى المملكة المتحدة، وتعليق جميع الاتصالات الثنائية عالية المستوى المخطط لها مع روسيا.
وقالت ماى لنواب فى البرلمان البريطانى إن روسيا لم تقدم “أى تفسير” لكيفية استخدام المادة الكيماوية فى المملكة المتحدة، واصفة رد موسكو بأنه حمل كثيرا من “العجرفة والتحدي”. وأضافت رئيسة الوزراء التى اجتمعت فى وقت سابق، مع كبار ضباط المخابرات فى داونينغ ستريت أنه “ليس هناك استنتاج بديل آخر سوى أن تكون الدولة الروسية متورطة فى محاولة اغتيال سكريبال وابنته”. فيما أعلنت الهيئة المنظمة لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة البريطانية أنها ستنتظر نتائج اجتماع الأربعاء قبل النظر فى الترخيص الممنوح لشبكة “روسيا اليوم”، معتبرة أنها أداة دعاية موالية للكرملين.
روسيا: إجراءات استفزازية وسرعان ما انتقد وزير الخارجية الروسي، سيرجى لافروف، خطاب رئيسة الوزراء البريطانية التى اتهمت بلاده بالضلوع فى محاولة اغتيال الجاسوس الروسى بمادة كيماوية. وقال لافروف إن تصريحات ماى “استفزاز صريح وغير مسبوق” والإجراءات التى اتخذتها لندن “غير مقبولة ولا قيمة لها” كما أنها “تضر بشدة العلاقات بين البلدين”. وكان لافروف قد أكد سابقا أن بلاده سترد على أى استفسارات بريطانية، إذا طلبت لندن ذلك رسميا حسب اتفاقية الأسلحة الكيماوية التى تمنح بلاده 10 أيام قبل الرد على أى استفسار. وأكد متحدث باسم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، أن بلاده لن تقبل أى اتهامات غير مدعومة بأدلة قاطعة كما أنها لن تقبل بلهجة تهديدية فى التعامل معها. ويوم السبت الماضى أعلنت موسكو أنها قررت طرد 23 دبلوماسيا بريطانيا، وأمهلتهم أسبوعا لمغادرة البلاد، وأضافت أنها ستغلق المركز الثقافى البريطانى فى روسيا، والقنصلية البريطانية فى سانت بطرسبرج. وقالت وزارة الخارجية البريطانية إنها كانت تتوقع “مثل هذا الرد” من روسيا، وإن مجلس الأمن القومى سيجتمع بداية الأسبوع المقبل للنظر فى الخطوة المقبلة. فيما لا يزال سكريبال، البالغ من العمر 66 عاما، وابنته فى حالة حرجة داخل مستشفى بريطاني.
رد فعل “غربي” وقد أدان قادة كل من فرنسا وألمانيا والولاياتالمتحدة “أول استخدام لسلاح كيماوى داخل أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، واعتبروه انتهاكا للسيادة البريطانية على أراضيها، وأصدروا بيانا مشتركا يدين الهجوم واصفين إياه “بالمروع وغير المقبول”، وأنه “انتهاك للسيادة البريطانية وأى هجوم مشابه بتنظيم من دولة معينة، يعد انتهاكا صريحا لمعاهدة حظر استخدام الأسلحة الكيماوية والقانون الدولى وتهديدا مباشرا لأمننا جميعا”. واتفق القادة الغربيون على “أنه لا يوجد أى تفسير آخر للهجوم، سوى أن روسيا تقف خلفه وتتحمل مسئوليته”. وطالب البيان موسكو بضرورة الإجابة عن كل الاستفسارات المطروحة عليها بخصوص نوعية المادة الكيماوية المستخدمة فى الهجوم. واتهمت بريطانيا، فى مجلس الأمن، روسيا بخرق التزاماتها باتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية، واستخدام غاز الأعصاب فى محاولة اغتيال عميل روسى مزدوج على أراضيها.
النهاية المتوقعة وعلى الرغم من “النبرة العالية” فى الرد البريطانى هذه المرة، والتصعيد النسبى على المستوى الدولي؛ فإنه ليس من المتوقع أن يتمادى أحد الطرفين فى الفعل أو رد الفعل، إلى الحد الذى ينقل الصدام إلى مستوى أكثر سخونة أو أكثر حدة، إذ تدرك لندن أنها لابد أن ترد على ما تراه انتهاكا جديدا لسيادتها من قبل موسكو، الذى ينظر إليه باعتباره ضربة جديدة لحكومة ماى التى تتلقى انتقادات على عدة صعد، إلا أنها لاتستطيع فى الوقت ذاته المساس بمصالحها الحيوية مع موسكو، التى يبدو أنها نجحت فى فرض كلمتها خلال هذه الجولة، ما لم يجد جديد يغير مسار الأحداث.