الشارع لنا، عبارةٌ معروفهٌ تعرفنا عليها من خلال أفلام يوسف شاهين، ولكن ما مدى صحة هذهِ «الحقيقة»؟ هل الشارع لنا فعلاً أم أنها أمنيات وستبقى كذلك؟ الدول «العربية» عموماً تشترك فى كون حكمها حكما ديكتاتوريا وليس ديمقراطىا، وتختلف الديكتاتوريات فيها بنسبة الدموية فى أفعالها تجاه الشعب. هدف الديكتاتور عموماً ليس الأفراد بل الفكر الذى يحمله الأفراد. إبادة فكر هو إبادة لنشأة جيل محتمل فى الغد. لا أحد ينكر أن معظمنا تعامل بحماسٍة مبالغ فيها، لفرط لهفتنا لتذوق معنى الحرية، مع بداية الربيع العربي. ولا يخفى على الجميع أن هدف «معظمنا» كان هو تغيير الأنظمة البائدة بأخرى جديدة، وبحسب المفهوم الديمقراطى الذى تعرفنا عليه من خلال الكتب وليس الممارسة الحياتية. فى الأيام الأولى لثورة تونس تعرفنا على مفهوم جديد لحق الشعب، وهو أن الشارع فعلاً للشعب، وجاءت ثورة 25 يناير لتؤكد هذهِ البديهية وترسخ فى أذهاننا أسطورة “الميادين". لم يحدث سابقاً أن نام الشعب فى الخيام والشوارع محتجاً على نظام الحكم ومطالباً بالتغيير ثم بإسقاط النظام. ولن يشك أحد أن هاتين الثورتين كان لهما الأثر الواضح فى تقبلنا لمفهوم الثورات الشعبية العفوية، ولكن ماذا حدث بعد ذلك ليتحول مفهوم الشارع للشعب ويصبح الشارع لكلمة الصناديق الأخيرة؟ من مراقبتى للأحداث عن كثب من منفاى توصلتُ إلى حقيقة أن “معظمنا" ممن بدأ بالمبادرة للحث على التغيير يعيش فى بلده ولكنه لم يعايش الشعب جيداً. وكما يقال فرقٌ كبير بين العيش والمعايشة. برغم ادعائنا المستمر أننا نفهم شعوبنا على اختلاف طبقاتها وتكويناتها، فإننا نصل لمرحلة من المعطيات والنتائج نكتشف فيها أننا لم نكن نعرف هذا الشعب بحق. الشارع كان لنا ولكن الكلمة الأخيرة كانت للصناديق تلك الصناديق التى جلبناها “نحن" من خلال الشارع والخيم وليال طوال من الاحتجاج والاعتصامات. أتحدث بصيغة الضم والجمع “نحن" لأنى أحس أن كل من تحمس للتغيير وكل من أيدَ الحراك بطريقة أو أخرى معنى بذلك. الصناديق لا تفرّق بين من بات فى الشوارع أو من يحمل شظية رصاصة فى خاصرته وبين من جلس طوال الوقت على “الكنبة" وانتظر هذا اليوم الموعود للإدلاء بصوته. الصناديق لا تدرك عمر ومهنة وثقافة المصوت وبإمكانه أن يحصى حتى صوت “المخاليع" إن أمكن. هل أثبتت الصناديق أن التغيير الذى تريده الشعوب ليس هو نفس التغيير الذى سعت إليه القوى الثورية التى بدأت هذه المسيرة؟ هل أثبتت كلمة الصناديق أننا لا نعرف شعوبنا جيداً ويجب إعادة النظر فى معايشتها من جديد لنفهم ماذا حدث؟ التاريخ يشير ببنانهِ إلى أمثلة عديدة ومنها الثورة الإيرانية وما نتج عنها من دولة جديدة لا تمتُ بصلة لطموحات من بدأوا الحراك أول مرة. لمن يُحسب التاريخ فى هذه الحالة؟ هل لمن بدأ استعادة الشارع للشعب أم للصناديق التى قالت كلمتها الأخيرة فى مطلب الشارع والكنبات؟ تصيبنى الدهشة أحياناً كيف أخذت الأمور هذا المنحى غير المتوقع، وبعد فترة من الزمن اكتشفتُ أنها ليست دهشة بقدر ما هى شعور بالإحباط. بعدما صرتُ أشهد مجريات الأحداث فى تونس ومصر، وتلك الملتهبة منها فى كل من سوريا والبحرين والخفوت المفاجئ لنجومية ثورة اليمن السلمية وضياع الهوية الليبية التى باتت غريبة علينا ولم نعد نذكرها، وكأنها دولة جديدة لم تكن موجودة ولا تخصنا فى شيء. وقبل كل هذا وذاك، الربيع المبكر الذى بدأ فى بلادى “العراق" وما زلنا نجنى ثماره كل يوم من دم وضحايا وتخلف. كل هذه المعطيات والمتغيرات بين يدى تجعلنى أعيد النظر فى فكرة “الشارع لنا" وتجعلنى أدقق أكثر فى ملامح شعبى قبل أن أبدأ بأى تغيير أو مبادرة. لكل شعب ملامح مختلفة وكى تناسبه فى لحظة التغيير عليّ أن أدرس ملامحه جيداً والألوان التى تليق به. يبدو كلاماً منمقاً وساذجاً أشبه بتصريحات سيف الإسلام القذافى: إحنا موش مصر وتونس! ويبدو أيضاً أنه الواقع الذى نحاول أن نتجاهلهُ كى لا نفسد أحلامنا. هل هذا يعنى اليأس والاستسلام لرؤية الأغلبية، حتى إن كانت كارثية، فقط لأنهم أغلبية؟ وهل من صنع الثورات، وإن كانوا أقلية، لا حق لهم فى التغيير فقط لأنهم أقلية؟ ما لم تعيه شعوبنا أن الديمقراطية ليس أن تمارس سطوتك بمجرد حصولك على الأغلبية بل الديمقراطية تعنى ألا يكون فى قاموسك مصطلح الأغلبية والأقلية أصلاً. بمجرد تصنيف الشعوب على هذا الأساس يبطل مفهوم الديمقراطية وما حدث من تلقين لشعوبنا أن يختاروا من جلدتهم ليكونوا الأغلبية بغض النظر عن الكفاءة والنتيجة واضحة وماثلة أمامنا فى الحكومات المنتخبة حالياً. بعد الثورات صرنا نتردد كثيراً فى نقد الشعوب لأننا نرى أن من حقها أن تحصل على ما تريد بغض النظر عن أسلوبها وطريقتها طالما الأنظمة القائمة لم تفهم مطالبها. صرنا نتردد إلى درجة المخافة والخشية وهذا يعنى أننا تخلصنا من خوف الأنظمة ليحلَّ مكانه الخوف من اختيار الأغلبية. لقد جُبلت شعوبنا على مفهوم الأغلبية والأقلية وعندما “يتكاثرون" يختارون من يشبههم لا من يناسبهم. متى ما توصلنا إلى رأس الخيط المفقود الذى يربطنا بشعوبنا سنعرف حينها لمن الشارع. * كاتبة عراقية