الآن فقط، أستطيع الوقوف هنا، بين القصر والمئذنة، أنظر يمنيا ويسارا، أترجل إلى الأمام ثم أعود إلى الخلف، أجرى خلف ابنتى، أقفز مثلها إلى أعلى، أعبث معها بأوراق الشجر، ثم أستريح بجوارها هنا، على هذا الرصيف بجوار السور الآن فقط، لن أهرب من نظرات رجال الأمن ولن تلتزم صغيرتى بتعليماتى فى هذه المنطقة، فلا الأمن أصبح موجودا ولا صغيرتى أصبح لديها الفضول فى معرفة شىء، فالمشهد واضح ولا يحتاج تفسيرا، سيارات الأمن التابعة لوزارة الداخلية رحلت عندما رحل أصحاب القصر، وكلاب الحراسة التى كنت أشفق على ابنتى من مجرد النظر إليها ربما ذهبت لتحرس مكانا آخر، والمارة الذين كانوا ينظرون إلى أعلى ليمتعوا أعينهم بثمار الأشجار، رفعوا أيديهم إلى أعلى داعين الله أن ينجيهم مما ابتلى به أصحاب القصر، حامدينه على الفقر والصحة والستر، أنا هنا فى جمعية عرابى بمدينة العبور، أمام قصر جارى «مبارك» رئيس مصر السابق. إذا ساقك القدر للمرور أمام القصر، فلا تنظر يمنيا أو يسارا، ولا تتوقف لتسأل عن شخص أو مكان، هذا إذا نجحت فى الدخول من البوابة الرئيسية لجمعية عرابى بمدينة العبور، لن تجد لافتة مكتوبا عليها «ممنوع التصوير» فقط، أنت بجوار سور شاهق وبوابات حديدية وأشجار تحيط بالسور سيارتين تابعتين لوزارة الداخلية ورجال الأمن يتبعون جمعية عرابى وعدد من كلاب الحراسة، إذن أنت فى منطقة يسكنها شخص مهم، إنه مبارك رئيس مصر السابق، هذا السور العالى يحيط بقصره ومزرعته التى تحتوى على أشجار شتى مثمرة، مبارك لم يدخل هذا القصر منذ سنوات طويلة، ولا زوجته سوزان، فقط نجلاه علاء وجمال، تلك هى المعلومات المتداولة بين سكان مدينة العبور المجاورين للقصر، ونجد بعضهم أيضا يتحدث عن سهرات حمراء داخل المزرعة حضورها من أصدقاء وصديقات علاء وجمال، فهذا هو المكان الآمن غير الآهل بالسكان، وإذا كانت مثل هذه الحكايات تستفزنى وأنا الجار الأحدث للمزرعة قيل لى إن هناك تعليمات أمنية ببناء سور للمسجد من الجهة المقابلة للمزرعة، فكان الأكثر استفزازا ما عرفته عن المسجد المقابل للمزرعة، على أن يكون السور بدون بوابة، ومن يرغب فى دخول المسجد عليه أن يدخل من الباب الذى يبتعد عن المزرعة بألف متر على الأقل، أما مئذنة المسجد فوضع فيها الأمن كتلا خرسانية حتى لا يصعد إليها من يحاول تهديد أمن سكان القصر فى الجهة الأخرى، وكانت المعلومات المتداولة من البعض أيضا، أن رجل كان يمتلك مزرعة بجوار مزرعة مبارك وأجبر على التنازل عنها لضمها لمزرعة الرئيس على أن يتم تعويضه بمزرعة أخرى، فلا الرجل تم تعويضه ولا المرض الذى نال منه حسرة على مزرعته تركه إلا وهو جثة هامدة، أما معلوماتى عن مساحة المزرعة فكانت عن طريق السمع مثل سابقتها من المعلومات، قيل إن مزرعة مبارك 40 فدانا ببعد ضم مزرعة جاره إليها، وقيل 50 فدانا، وقيل إن مساحة القصر على 3 أفدنة، وإن الكاميرات المزروعة أعلى السور ورجال الأمن الموجودين فى الخارج ليسوا القوة التأمينية للقصر، فهناك العشرات من رجال الأمن خلف السور، لا يفتحون البوابة إلا بتعليمات من الأمن الموجود فى الخارج، هذا ما كنت أسمعه قبل الثورة فدفعنى فضولى إلى دخول المزرعة وزيارة القصر فتلك أمنية بعيدة المنال، ولكن اقتصر فضولى على الفرجة من الخارج على المزرعة والقصر ورجال الأمن وأيضا على المسجد والمئذنة. قبل الثورة رافقتنى ابنتى الصغيرة فى سيارتى المنهكة واجتزنا البوابة الرئيسية أول حاجز يفصلنا عن مزرعة مبارك وقصره، وعلى بعد مائتى متر من البوابة بدأنا نرى سور المزرعة، كان يختلف عن غيره من أسوار المزارع المجاورة، هو الأعلى والأنظف والأكثر تكلفة، أشجاره مرتفعة تحول دون رؤية من فى المزرعة من أشخاص وبنايات، أما الرصيف المجاور للسور فلن تجد عليه ورقة واحدة من أوراق الشجر المتساقطة والتى ملأت أرصفة الأسوار المجاورة، وفى الجزيرة التى شطرت الطريق أمام المزرعة أشجار من الفيكس يتم تهذيبها ورشها كل يوم، أما مساحة المزرعة التى قيل إنها 40 أو 50 فدانا فلم أنشغل بها، فقط انشغلت بالأمن المحيط بالقصر والمسجد المواجه له، بالفعل لا توجد أبواب للمسجد فى السور، سألت فرد أمن تابعاً لجمعية عرابى من أين أدخل إلى المسجد؟ فأكد لى أن الدخول من الخلف، خذ هذا الطريق ثم يمين قليلا ستجد الباب, اندهشت فمن يرغب فى الصلاة حتى من العاملين فى جمعية عرابى عليهم أن يسيروا على الأقدام مسافة طويلة، غصة شعرت بها فى حلقى، فحتى أدخل بيت الله على أن أبتعد تماما عن بيت مبارك، وكأنه «أى مبارك» استكثر على نفسه حسنة فى الدنيا بفتحه بابا للمسجد فى السور المقابل لقصره، فهبطت الحسنات من السماء على المصلين الذين أرهقهم السير على الأقدام للوصول إلى المسجد، تلك هى حكاية مزرعة مبارك وقصره فى مدينة العبور، نصف الحكاية عرفتها سمعيا من أهالى المنطقة، ونصفها الثانى عشته واقعا مريرا، كان هذا قبل الثورة، وبعدها، تغيرت الحكاية ما سمعته وما رأيته وعشته. بعد الثورة قامت الثورة، ودخل مبارك ونجلاه علاء وجمال السجن عندما تبدلت الحال، فقررت الذهاب ثانية إلى مزرعة مبارك، لأرى المشهد فى ظل المتغيرات، هذه المرة كنت بمفردى، ربما أخوض مغامرة لن يتسنى لى القيام بها إذا اصطحبت ابنتى مثلما فعلت قبل الثورة، دخلت من بوابة جمعية عرابى مستهدفا القصر، فوجدت المشهد وقد تحول إلى النقيض، لا يوجد فرد أمن واحد لا تابع لوزارة الداخلية ولا للجمعية، والأشجار المحيطة بالأسوار لم تجد من يهذبها، أما أكوام أوراق الشجر فأحاطت بالمزرعة، وكانت المفاجأة أن المسجد المقابل للمزرعة فتح أبوابه للمصلين ولم تعد هناك مشقة فى الدخول إليه وبجوار المسجد وجدت مستشفى تحت الإنشاء، حتى كلاب الحراسة لم يعد لها وجود، وقفت بجوار سور المزرعة ربما أتمكن من الدخول، لكنى وجدت نفسى أمام بوابات حديدية حالت دون دخولى، لم أجد من أتحدث إليه وبعد ساعتين وجدت عاملا بسيطا يتجه إلى إحدى البوابات فهرولت إليه، طلبت منه أن يسهل لى مهمة الدخول، لكنه رفض فاكتفيت بالتحدث معه، العامل أكد لى أن المزرعة لا يوجد بها قصر، لكنها استراحة كان يتردد عليها علاء مبارك بين الحين والآخر، واستطرد، لم أر مبارك هنا، ولا زوجته سوزان، فقط كنت أرى شخصيات أظن أنها مهمة «بهوات» يعطون رئيسا داخل المزرعة التعليمات الخاصة بجنى الثمار أو تهذيب الأشجار، والمزرعة تضمن نوعيات نادرة من أشجار الفواكه والنخيل وكان بها مزرعة للطيور تمت تصفيتها فيما بعد، أما الشخصيات المهمة فلم أعد أراها بعد الثورة، وعن مساحة المزرعة التى قيل لى إنها ما بين 40 و50 فدانا أكد لى عامل المزرعة أنها لا تزيد على 15 فدانا وأن مبارك حصل عليها قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية، وأعرب العامل عن سعادته بفتح بوابة للمسجد من الجهة المقابلة للمزرعة، وعن غياب الأمن قال: لم نكن بحاجة إلى سيارات الأمن التى كانت موجودة أمام المزرعة طوال الوقت، فجمعية عرابى لها الأمن الخاص بها، وعندما كنت أقول ذلك كان يرد على أحد المهندسين بقوله أى مكان خاص برئيس الجمهورية لابد أن يحميه الأمن، كلام العامل معى تضمن نفيا لما كان يشاع حول مساحة المزرعة أو السهرات الحمراء بداخلها، وتضمن أيضا نفيا لما كنت أسمعه عن مساحة القصر وما يحتويه من تحف، حتى إن عامل المزرعة قال: المزارع المجاورة لنا أكبر من هذه المزرعة وبها قصور، أما ما يقال عنه إنه قصر مبارك فلا يعدو استراحة لكنها أقرب إلى فيلا، تلك هى حكاية مزرعة مبارك وقصره فى مدينة العبور، ولعل الضجة التى أثيرت حوله تقل كثيرا عن الضجة التى أثيرت حول أملاك عائلة مبارك فى أماكن أخرى، فالمزرعة والقصر و«الاستراحة» نقطة فى بحر أملاك العائلة التى لا تجد من يسكنها.