مياه كثيرة عبرت تحت الجسر منذ أن كتبت منذراً ومحذراً من مخاطر العائدين من ساحات القتال، التى أشعلها المتطرفون والتكفيريون فى مقالتين سابقتين. وهكذا ظل المراقبون يتابعون هذا الملف الحساس منذ هزيمة «القاعدة» فى أفغانستان، بعد معارك تورا بورا، مروراً بالقضاء على التنظيم الذى استنسخها فى العراق، بزعامة أبى مصعب الزرقاوي، حتى وصلنا مرحلة هزيمة «داعش» فى سورياوالعراق. بيد أن تلك مياه، وهذه مياه أخرى أشد تعكيراً وعمقاً وخطراً. وتفصيل ذلك مما يطول ويتشعّب، ولكنه أمر لا بد منه.
تشير تقديرات الولاياتالمتحدة فى عام 2016 إلى أن عدد مقاتلى «داعش» الذين تسربوا إلى سورياوالعراق بلغ 36500 مقاتل، بينهم 6 آلاف أجنبى (غير عربي)، فيما تشير أرقام الأممالمتحدة إلى أن عددهم يبلغ 30 ألفاً، بينهم 7 آلاف أجنبي، بحسب قائمة نشرتها الشرطة الدولية (إنتربول). وتذهب الأممالمتحدة إلى أن ما بين 10 % و30 % من مقاتلى «داعش» عادوا إلى أوطانهم قبيل الهزيمة الأخيرة فى الموصل العراقية ثم الرقة السورية. وتجمع أجهزة الاستخبارات على أن «داعش» لديه 8 فروع رئيسية، و50 تنظيماً منضوياً تحت لوائه، فى نحو 21 بلداً. ولن أتحدث بالتفصيل عن حجم التهديد المتمثل فى «النسخة الثانية» من «داعش» بالنسبة للغرب، إذ إن أجهزته الاستخبارية ستتعامل مع هذا الملف، فى ضوء الهجمات الشنيعة التى شهدتها بريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا خلال السنوات الأخيرة. وسيكون تركيزى على تهديد «داعش 2» على السعودية ودول المنطقة إجمالاً. وهو بالنسبة للمملكة تهديد حقيقى وخطير، بحكم محاولات التفجير والقتل التى نفذها التنظيم فى المملكة، وبلغت حد استهداف الحرمين الشريفين فى مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة. تراوح تقدير عدد «الداعشيين» الذين التحقوا بالتنظيم فى معقليْه السورى والعراقى بين 2300 و2500 مقاتل. وهو أقل كثيراً من نحو 6 آلاف مقاتل من تونس، وما بين 5 و7 آلاف من مسلمى روسيا.
مَن مِن مقاتلى «داعش» المهزومين سيسعون للعودة إلى بلدانهم؟ وهل سنتعامل معهم باعتبارهم «مُغرراً بهم» ينبغى إصلاحهم ومناصحتهم ليعودوا للجادّة، أم سنتجاوز هذا التوصيف «غير الموفق» الذى لم يعد مقبولاً؟ ثمة مراقبون وخبراء فى الأمن يعتقدون أن «فلول» التنظيم الدموى سيعمدون إلى إنشاء منظمة إرهابية جديدة، أى ولادة تنظيم جديد من رحم «داعش» لشن عمليات عنف متفرقة، وتنصيب مكامن، وهجمات انتحارية، ريثما يستجمع «داعش» شتات مقاتليه. وثمة من يرون أن أقطاب مقاتلى التنظيم سيتجهون للانضمام إلى «القاعدة»؛ لأنها الخيار الوحيد للاستمرار فيما يسميه المتطرفون «جهاداً». وهناك من يقولون إن «داعش» سيتحول بعد خسارته أراضيه فى العراقوسوريا إلى تنظيم «مرتزقة»، عماده المقاتلون الذين سترفض بلدانهم عودتهم إليها. وترجح هذه التقديرات أن يسعى هؤلاء المقاتلون لإيجاد «مسرح» جديد ل «الجهاد»، خصوصاً فى ليبيا، أو اليمن، أو غرب إفريقيا، أو أفغانستان أو بلاد المغرب العربي. لا شك فى أن «العائدين» من مسارح «داعش» المدمرة فى سورياوالعراق أنواع، وليسوا مجرد مهزومين هائمين على وجوههم. وفى مقدمهم «المشوَّشُون»، وهم من أصيبوا بخيبة أمل فى «داعش» بعد انضمامهم إلى صفوفه بالرقة والموصل، بعدما تبين لهم أن «دولة الخلافة» ليست «المدينة الفاضلة» التى تحرقوا شوقاً للذهاب إليها. صحيح أن هذه الشريحة من العائدين عن قناعة تامة ستكون بحاجة إلى تأهيل وعلاج نفسي. ولكن المشكلة الأكبر أنه لن يوجد عاقل يمكنه أن يثق بمثل هذا الصنف من الناس «مصاصي» الدماء. وهو سلوك عام لدى جميع من احترفوا مص الدماء باسم «الإسلام» وهو منهم براء. (وهو تعبير أفضل وصفاً لمن يتاجرون بالدين، ويقومون بتسييسه. وربما لهذا اختار كتاب كثر فى أرجاء العالم أن يطلقوا عليهم لفظ «إسلامويين متطرفين»). وهذه الفئة من العائدين من حطام معقلى «داعش» لا بد أن تبقى طويلاً فى السجون الأمنية المحاطة بتدابير مشددة، ولا يخرجوا سريعاً لما يسمى المناصحة ليعودوا أدراجهم لكهوف الدم كما فعل أسلافهم. فقد رأينا فى السعودية ماذا فعل مهاجمو مركز الوديعة الحدودى بعد إطلاقهم، ورأينا كيف غدا «داعش» يقوم بتجنيد العامة من المقيمين لتنفيذ هجماته الظالمة فى شهر رمضان المبارك، وفى أعز المقدسات الإسلامية.
وهناك عائدون من «داعش» ليس لأنهم أصيبوا بخيبة أمل فى عاصمتى التنظيم، ولكن لأن أرض المعارك ضاقت بهم، وانهزم تنظيمهم. سيعود هؤلاء وفكرة «الأحزمة الناسفة» متقدة فى دواخلهم. سيبتعدون عن التنظيم، لكنهم لن يتخلوا عن «التكفير والتفجير». وهذه ستظل مشكلة مؤرقة بالنسبة إلى الأجهزة الأمنية. فما إن ينفتح مسرح جديد ل «الجهاد»، سيكونون أول الملتحقين به. ولن يضيرهم أن يبقوا - ريثما تلوح لهم فرصة لشن هجوم- «خلايا نائمة»... أشبه بقنبلة موقوتة وسط مجتمعنا.
وهناك أيضاً عائدون «ناشطون»، مكلفون بإيقاظ «الخلايا النائمة» ل «داعش»، وبتجنيد أُطُر جديدة وعناصر للتنظيم، وسيكون بعضهم مخولاً لشن هجمات ما يعرف ب «الذئاب المنفردة». وهم الشريحة الأشد خطراً وفتكاً من «العائدين».
ولذلك، وفيما لا تزال المعارك ضد «داعش» فى الرقة، وفى سوريا إجمالاً، فى نهاياتها (لا يزال للتنظيم وجود بمحافظة دير الزور، خصوصاً مدينة الميادين)؛ فإن الخيار الأفضل أن يتم تدمير جميع من تبقى من «داعش» فى سوريا، وكذلك الجيوب الصغيرة التى يحتفظ بها التنظيم فى العراق. والأكثر أهمية أن تحول قوات وأجهزة التحالف الدولى ضد «داعش» إلى منع أى هجرة محتملة لفلوله إلى اليمن، أو ليبيا، أو غرب القارة الإفريقية، لضمان منع وقوع مزيد من الهجمات فى بلدان العالم، خصوصاً أوروبا الغربية.
الأكيد أن هزيمة «الدواعش» فى الرقة والموصل يجب ألا تعنى تجاهل استمرار قدرات التنظيم الدموى على الإرهاب، والقتل، والتدمير؛ وأن العائدين من جحيم «داعش» لا يريدون سوى أن يستريحوا قليلاً ليحيلوا المنطقة إلى جحيم جديد. صحيح أن هناك اختلافات شكلية بين «القاعدة» و«داعش» و«جبهة فتح الشام» وغيرها من المنظمات الدموية، لكن هدفها الإستراتيجى بعيد المدى واحد: إقامة دولة خلافة إسلامية، تستند إلى فكر الإخوان المسلمين وأدبياتهم السياسية (وهم أساس جميع التنظيمات التكفيرية المتطرفة) القائل بضرورة إزالة الحدود الجغرافية السياسية، لقيام تلك الخلافة المستبدة. وبحسب دراسات علمية واستخبارية رصينة، فإن العائدين من «داعش» سيعودون إلى بلدانهم بعد حلق لحاهم، ليتظاهروا بالاندماج فى المجتمع، وبعد أن يطمئن الناس إلى وجودهم بينهم سيقومون بشن هجماتهم الوحشية. ولا يعنى ذلك أنه لن يكون بين العائدين من «داعش»، خصوصاً شريحة المصابين بخيبة أمل فى «التنظيم الداعشي»، من قرر أن يطلق «الفكر المتطرف». وهى من دون شك حالات فردية تُحسن الأجهزة الأمنية المختصة التعامل معها، ولكن عليها أن تخشى تقلب أمزجتها الفكرية، والشواهد عدة على من عادوا لمنهج التكفير والتفجير بعد أن أعلنوا البراءة منه وهم يكذبون!!