دكاكين لبيع «البحث العلمى».. ورسائل ماجستير ودكتوراه بطريقة القص واللزق ضرورة عدم السماح بأية تجاوزات فى تطبيق معايير البحث العلمى
د. منال عبدالخالق: نعيش واقع «ماجستير ودكتوراه لكل مواطن»
«دكاكين الرسائل الجامعية» ظاهرة غريبة غزت المجتمعات العربية، وأصبحت تهدد حاضر ومستقبل البحث العلمى، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أم من خلال المكتبات التى تخصصت فى إعداد أطروحات جامعية للباحثين فى مرحلة الماجستير أو الدكتوراه، والحصول على الرسالة جاهزة دون بذل أى جهد مقابل مبلغ من المال، وفى أى تخصص . كارثة بكل المقاييس، تجعل من العلم سلعة تباع وتُشترى، وتغييباً للوعى والضمير، وهدر لجميع القيم، وتخريبً للعقول من أجل الحصول على لقب «دكتور»، بصرف النظر عن ضحالة فكر صاحب اللقب الممنوح «المسروق»، بل قد يُعين فى إحدى الجامعات، ويُدرس للطلاب، فيقدم لهم معلومات هشة، وأفكارا مضللة، فكيف تكون حال هذا الجيل؟ الدكتورة إيمان حسنين عصفور، أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية البنات بجامعة عين شمس، تقول: إن هناك صنفا آخر من الطلاب يُعد الرسالة بنفسه، ولكن عن طريق «القص واللصق»، وهو نوع من التحايل والخواء الفكري، والاستسهال للحصول على اللقب فى أسرع وقت، دون بذل أى جهد فى التفكير والبحث عن موضوع جديد، أو فكرة حديثة لرسالته. وتضيف أن دور الأستاذ الجامعى لا يقتصر على التدريس للطلاب، ونقل المعلومات والمعارف وطرح الأفكار فقط، بل تتعدد مهامه بين أكاديمية، وبحثية، وإرشادية، واجتماعية. وفى أثناء كل ذلك، يكتسب من الخبرات ما يؤهله لمهمة الإشراف، وكشف الحقيقة، وعليه أن يتابع الباحث خطوة بخطوة بدءا من اختيار موضوع خُطة البحث (غير المكرر أو المنقول)، وعرضها فى «السمينار» الخاص بالقسم التابع له، ثم إجراء التعديلات بِناء على الآراء المقترحة، ثم الإشراف والمتابعة والملاحظة الدقيقة لكل صغيرة وكبيرة تخص موضوع الرسالة ومتغيراتها المستقلة والتابعة. وترى الدكتورة إيمان عصفور، أنه لا بد من وضع مجموعة من المعايير لقبول مناقشة الرسائل العلمية (ماجستير ودكتوراه) وإجازتها، خصوصا بعد تراجع جامعاتنا فى التصنيف العالمى للجامعات، منها أصالة الفكرة موضوع الرسالة، وعدم التكرار الممل، والكشف عن ذلك إلكترونياً لمتغيرات الرسالة من خلال قاعدة بيانات متكاملة ودقيقة، وتفعيل إجراءات نسب الاقتباس بطرق وبرامج دقيقة تكشف حقيقة الاقتباس بالنسب المسموح بها لتنشيط فكر الباحثين، وحثهم على ابتكار أفكار جديدة خاصة بهم، والمراجعة اللغوية والشروط الكتابية الدقيقة للرسائل العربية والأجنبية، بحسبانها ستكون مرجعا يُعتد به ويوضع فى المكتبات يتعلم منه باحثون آخرون، فلا يكررون الأخطاء نفسها باعتبار الرسالة قد أجيزت بالفعل، علاوة على حداثة الدراسات السابقة وتنوعها بين العربية والأجنبية لتحقيق الثراء المعرفي، والرجوع لمراجع ودوريات حديثة وتوثيقها بالطرق الصحيحة.
أين معايير ومناهج البحث؟ ويتفق الدكتور أحمد السيد مصطفى، أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية، جامعة المنيا، نائب رئيس الجامعة الأسبق، مع الرأى السابق، مضيفا أن الحصول على الماجستير أو الدكتوراه، يتطلب تقديم رسالة أو بحث علمى بعد النجاح فى بعض المقررات، طبقا للوائح داخلية لكل كلية، من خلال معايير علمية تحكم البحث العلمي، وتسير طبقا لمناهج البحث وقواعده. وتوصى الدكتورة ناهد عبدالراضي، أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس بكلية التربية بجامعة المنيا، نائب رئيس رابطة التربويين العرب بتفعيل خطة البحث العلمى بالجامعات والكليات والأقسام التابعة لها، وعقد اختبارات فى مجال التخصص، واللغة، والحاسوب، ويكون اجتيازها أولا كشرط للتسجيل لدرجتى الماجستير والدكتوراه. وقبل مناقشة الرسالة، لا بد أن تطبق عليها أدوات الاحتيال العلمي، أو ما يسمى البلاجياريزم Plagiarism) ) وهو أى شكل من أشكال النقل غير القانوني، وتعنى أن تأخذ عمل باحث آخر، وتدعى أنه عملك، وأدوات الكشف عن الاحتيال العلمى متاحة، حيث يمكنها التحقق من أصالة المحتوى لما يناهز 190 لغة، بما فيها اللغة العربية، وذلك للتقنين والحد من الرسائل العلمية التى لا ترقى إلى المستوى العلمى المطلوب.
ماجستير ودكتوراه لكل مواطن وتتساءل الدكتورة منال عبد الخالق، أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية بجامعة بنها: ما كل هذه الإتاحة؟ هل حقا بات الشعار: ماجستير ودكتوراه لكل مواطن؟ وليس المواطن فقط، بل ومن يقدم من الخارج أيضا، ولكل نصيب، والممتاز متاح للجميع بإذن الله، ثم كيف بالله عليكم، والسؤال يحمل مرارة أكبر من سابقه: كيف يخرج الجميع منتصرين فائزين، وقد أدوا ما عليهم، وقدموا للعلم جديدا يسد ثغرة فيه، والعلم منهم براء؟ وتضيف أن الحديث يبدو مزعجا أو ناقلا لصورة قاتمة، وقد يكون فيه ظلم لبعض الأساتذة الكرام الذين لا يزالون يقبضون على جمر النار، ويراعون ويتمسكون بأخلاقيات البحث العلمى والإشراف، داعية إلى وقفة حقيقية لتصحيح الخطأ، وتقبل النقد الإيجابي، وربط جهود التنمية بالبحث العلمي، والحرص على أن نجد لنتائج البحث العلمى مردودا يجيب على أسئلة ملحة، ويحل معضلات معرقلة، فلا يكون ممارسة جوفاء لا تسفر عن جديد، وأن تكون للأقسام والكليات خطط بحثية ملزمة ينطلق منها الباحثون لارتياد آفاق جديدة بعيدا عن عشوائية الاختيار، مع تجنب النقل والاقتباس.
عقبات فى طريق المرأة الباحثة من جانبها، تتناول الدكتورة منال خيري، أستاذ المناهج وطرق التدريس المساعد بجامعة حلوان، العقبات والصعوبات التى تعترض البحث العلمى فى مصر والعالم العربي، ومنها التقليل من قيمته، إذ لا تزال بعض الدول العربية أو بعض الإدارات فيها لا تعى قيمة البحث العلمي، وبالتالى لا تعمل جاهدة على تمكينه، وتيسير أموره، ونقص التمويل، وعدم تخصيص الميزانيات الكافية لإجراء البحوث بالطرق المناسبة، فضلا عن تفشى ظاهرة الفساد الإدارى فى كثير من القطاعات الرسمية التى لديها ميزانيات للبحوث، بالإضافة إلى إحاطة الأرقام والإحصاءات الرسمية بسرية غير مبررة، وعدم تزويد الباحث بها تحت دعاوى أنها معلومات أمنية، فى الوقت الذى يمكن الحصول فيه على تلك المعلومات من جهات أجنبية كالبنك الدولى ومنظمات دولية أخرى. وتشير إلى أن معظم البحوث التى يقوم بها أساتذة الجامعات تتم بهدف الترقية العلمية دون أن تكون بالضرورة بحوثا جادة، كما أنها لا تلامس الواقع المعيشي، والحاجة العلمية الحقيقية. كما أن المرأة الباحثة تعانى صعوبات جمة، خصوصا عند القيام ببعض البحوث التى تتطلب جمع بيانات ميدانية، مما يعيق تطور المرأة فى المجال العلمي، فمعظم الباحثات لا يحصلن على فرص متساوية لما يحصل عليها الرجال من حيث الوصول إلى مصادر التمويل، أو المشاركة فى المؤتمرات العلمية التى تتطلب إعداد بحوث أو أوراق عمل، بل قد لا توجه إليهن دعوات للمشاركة من قبل الجهات المنظمة للمؤتمرات.
السرقات العلمية أما الدكتور عبداللطيف الحناشى، أستاذ التاريخ السياسى المعاصر بجامعة منوبة بتونس، فيرى أن السرقة العلمية ظاهرة عالمية، غير أن انتشارها متفاوت من قطر إلى آخر، وتبدو أكثر تواترا فى الجامعات العربية، خصوصا مع انتشار الإنترنت، وتوسع استخدامه. ولا تختلف الحال بالنسبة للجامعات التونسية عن حال بقية البلدان العربية. فمنذ أواسط التسعينيات من القرن الماضي، بدأ الحديث عن السرقات العلمية فى الرسائل الجامعية فى مستوى الماجستير, وحتى الدكتوراه، وتضاعفت الظاهرة بعد اعتماد النظام الجديد للشهادات العلمية (الإجازة الماجستير والدكتوراه), الذى تميز بقصر مدة إنجازها. ويضيف أن العملية لا تقتصر على ما ينسبه الطالب إلى نفسه من كتابات الغير، أو إنتاجه أو ابتكاراته العلمية عند إعداد مشاريع ختم الدروس، ورسائل البحث، والماجستير، والدكتوراه جزئيا أو كليا. غير أن الظاهرة تظل محدودة الانتشار فى تونس نتيجة صرامة القوانين المعتمدة، واعتماد برمجيات خاصة تسهل عملية الكشف عن السرقات. وتوافقه الرأى نفسه الدكتورة شريفة كاله، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، مبينة أن رسائل الماجستير والدكتوراه يتم اعتمادها على المستوى الوطني، ولكن ذلك الأمر توقف منذ أكثر من خمس سنوات، إذ أصبحت الرسائل لا تسجل فى الموقع الوطني، وإنما أصبحت تسجل فقط على مستوى الكليات، الأمر الذى يفتح باب السرقة العلمية على مصراعيه.