الجهاد السلفى ولد نتيجة ترجمة خاطئة لنصوص دينية.. والشيوعية أيديولوجية وليدة نظرية اقتصادية هناك تشابه بين طريقة عمل الجهاد السلفى والسوفييت فالمنظمات الإرهابية تراهن على النظم الهشة
«احتواء طويل المدى وحاسم».. تلك الكلمات خلاصة دراسة أمريكية نشرتها مجلة كلية الدفاع الوطنى الأمريكية، التى تدعو خلالها إلى اتباع سياسة الاحتواء فى التعامل مع تنظيم داعش الإرهابى، وقد توصلت الدراسة إلى ذلك الأسلوب بعد مراجعة الطريقة التى تعامل بها الأمريكان مع الروس إبان فترة الحرب الباردة التى اتبعوا خلالها سياسة الاحتواء اليقظ. الدراسة توصلت إلى تلك النتيجة بعد عقد مقارنة بين الجهاد السلفى وأيديولوجية السوفيت، ووجدت - على حد من قاموا بها - أوجه شبه كبيرة بين التنظيمات الإرهابية والاتحاد السوفيتى.
هذا المشهد يقودنا إلى دراسة نشرتها أخيرا مجلة كلية الدفاع الوطنى الأمريكية، عدد يوليو 2017. وقد أعد الدراسة دكتور سكوت إنجلاند بمركز أورفاليا للدراسات الدولية العالمية بجامعة كاليفورنيا سانت بربارة. وقد اعتمد على مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز" عام 1947 بدون اسم مكتفية بعلامة X” " بدلا من اسم الكاتب الذى عرفه إنجلاند بأنه جورج كينان.
وكينان كان ولسنوات عضوا فى قسم الشئون الخارجية للولايات المتحدة. كما كان مخططا للسياسات الخارجية فى أواخر الأربعينيات والخمسينيات. وقد اعتبر مهندس الحرب الباردة بدعوته للاحتواء. وتتركز فكرة إنجلاند فى أنه مثلما لاقت سياسة الاحتواء فى الانتشار ضد تهديد شيوعية الاتحاد السوفيتى فى الحرب الباردة، فإنها يمكن أن تخدم كإستراتيجية فاعلة ضد الكفاح الأيديولوجى الحالى ضد المنظمات الإرهابية الجهادية.
كما أنه بفحص مفهوم الغرب واستجابته لأيديولوجية الشيوعية و الاتحاد السوفيتى ومقارنتها بالتهديد الذى يفرضه الجهاد السلفي، فإن ذلك يحدد بؤرة يمكن من خلالها أن تساعد فى تشكيل استجابة عملية ومؤثرة للتهديدات الحالية. وبالتالي، فإن إنجلاند يطبق إستراتيجية الاحتواء فى بداية الحرب الباردة على التهديد الحالى للجهاد السلفى.
لكن قبل الوقوف على كلام إنجلاند يجب أن نعود إلى كينان لنتعرف أولا على نظريته. فقد رسم كينان خطوطا متوازية بين الكرملين تحت جوزيف ستالين ونظام دينى يعمل فى عالم حيث قوى الخير (السوفيت) يمكن من خلال التقدم الحتمى للتاريخ أن يتعلموا على قوى الشر (النظام الرأسمالى العالمى).
ووفقا لكينان، كان القادة السوفيت يعتقدون أنفسهم أصحاب قوة مطلقة فى أوطانهم وأنهم محرومون من ترجمة وتطبيق إيديولوجيتهم خارجها، ولكن يمكن أن يظلوا مطمئنين لنصرتهم الحتمية. كما كان السوفيت يعتبرون خصما أيديولوجيا كبيرا. وأن الحجم السياسى الإيديولوجى لتحدى الاتحاد السوفيتى المفروض سريعا بعد الحرب العالمية الثانية كان أكبر من التهديد الذى فرضته على الأمن البدنى للشعوب.
وتعرف وصفة كينان للسياسة الخارجية تحت هذه الظروف على النحو التالي: احتواء طويل المدى وصبور وحاسم ويقظ للميول السوفيتية التوسعية. فإنه حذر من أن مثل هذه السياسة قد لا تجدى نفعا مع الحركات البهلوانية الخارجية: التهديدات أو الإيماءات غير الضرورية "للعنف" الخارجي. وقد اقترح أن تخلق الولاياتالمتحدة فى العالم صورة من الشراكة والانسجام والرخاء السلمي، حيث حذر من خطورة الشقاق.
كما لفت الانتباه إلى أهمية العقد الأخير من النظام السوفيتى وأن العنصر الأساسى فى مواجهة السوفيت فى تلك الفترة هو السعى لفهم وجهة نظرهم والبيئة التى كانوا يعملون فيها. خلال كتاباته فى السنوات الأخيرة من الثمانينيات، اقترح كينان :"أن أكثر الأشياء التى فى حاجة إلى احتواء من وجهة نظرى ليس الاتحاد السوفيتى ولكن سباق التسلح. وأن أول شىء نحن الأمريكان نحتاج إلى تعلمه فى سبيل الاحتواء هو أنفسنا وبيئتنا التدميرية وميلنا إلى العيش بما بتجاوز وسائلها والزج بأنفسنا فى الكوارث".
واعتمادا على ما سبق، عقد إنجلاند مقارنة بين الجهاد السلفى وأيديولوجية السوفيت. وقد خلص إلى الآتى: أولا: الشيوعية هى إيديولوجية سياسية مميزة مولودة من نظرية اقتصادية فى حين أن الجهاد السلفى هو ترجمة خاطئة لنصوص مقدسة. وهذا التمييز لا يجعل المقارنة غير مفيدة. ففى كلتا الحالتين، فإن نظام الإيمان الأصلى يقود ويقيد السلوك. والمهم أن كلا من شيوعيى الماضى و جهاديى اليوم يشن حربا يعتقد كل منهما أنها ستشكل مستقبل العالم. كما يعتقد كل منهما أن النظم تؤمن تحقيقهم النجاح الحتمى: بالنسبة للشيوعيين، نجاحهم نتيجة قوى التاريخ وبالنسبة للجهاديين السلفيين نجاحهم بسبب القدر المقدس. وفى كلتا الحالتين، شكلت الاعتبارات السياسية المحلية التى من خلالها تم تبنى معتقداتهم والتزاماتهم. كذلك أن أية منظمة إرهابية جهادية لا تمتلك المركب الصناعى الضخم واقتصاد السوفيت. وأيضا وعلى الرغم من أن ما يسمى بالدولة الإسلامية استطاعت بنجاح أن تحكم قبضتها على معدات عسكرية حديثة، لكن لا يمكن مقارنتها بالجيش الأحمر السوفيتى الضخم.
ثانيا: على الرغم من أن القوة النووية السوفيتية فرضت تهديدا وجوديا على الولاياتالمتحدة وحلفائها، فإنه فى الوقت الحالى لم تفرض أية جماعة إرهابية تهديدا على الرغم من الادعاءات من قبل بعض القادة السياسيين.
ثالثا: السوفيت لديهم بنية صلبة مركزية لترجمة الماركسية اللينينية على أرض الواقع وامتلكت القوة من خلال الولاء للفكرة. فى حين لم تطلب أية جماعة جهادية بشكل شرعى تكريس الأصولية. وفى الواقع، فقد ندد قادة القاعدة والمنظمات الجهادية بإعلان الخلافة من قبل الدولة الإسلامية.
ومن ناحية أخري، هناك أوجه شبه بين طريقة عمل الجهاد السلفى والسوفيت يجب أن تلقى الانتباه الكافي. مثلما كانت تسعى الماركسية اللينينية إلى تأسيس الاشتراكية العالمية بتصعيد البروليتاريا من خلال الثورة، كذلك يسعى الجهاد السلفى إلى فرض هيمنته، خلال العنف بالتخلص من النظم التى يدعى فسادها. فمثلا السوفيت، تراهن المنظمات الإرهابية الجهادية على النظم السياسية الهشة، لأن الفوضى المصاحبة والتالية تفتح الطريق أمام حرب وغضب شعبى.
وبشكل عام، فإن الجهاد السلفى يمزج بين الخطوط المتزمتة الوهابية والالتزام بالعنف من أجل التصعيد السياسى. والعنف ضرورى من أجل خلق حالة من «اليوتوبيا». وفى بعض الأحيان، ووفقا لقادة الدولة الإسلامية، فإن الحرب الدينية تؤدى إلى نهاية العالم.
إن نظرية كينان للاحتواء يمكن أن يكون تطبيقها مثمرا فى الصراع الإيديولوجى الحالى. ولكن قبل ذلك هناك سؤال مهم يجب الالتفات إليه: كيف يمكن التقليل من التهديد الذى تفرضه الجماعات الإرهابية؟ فالحرب ضد الجماعات الإرهابية الأصولية أرغمت المخططين العسكريين على إعادة النظر فى الشكل الذى سيكون عليه "الفوز" فى مواجهة التحديات التى تفرضها الجماعات الإرهابية المنتشرة عبر الكرة الأرضية وبالأخص النشطة فى كل من سورياوالعراق.
ويجب الأخذ فى الاعتبار حقيقة أن كلا من ما يسمى بالدولة الإسلامية والقاعدة تلعب لعبة ثلاثية المستوى. الأولى: مجهود انتقالى قبائلى لتوريط الدول الغربية وارتكاب أعمال إرهابية. الثانية: برنامج دعائى مصمم لكسب التأييد فى المناطق التى يحققون فيها بعض النفوذ. الثالثة: حملة عسكرية للاستيلاء على الأراضى.
ومن الجدير بالذكر أنه فى أثناء الحرب الباردة، اتبع السوفيت مجهودا متعدد المستويات مماثلا، وذلك لتقويض الحكومات المعارضة والفوز بالقلوب والعقول واللجوء للأعمال العسكرية فى حالة الضرورة.
وبالعودة إلى احتواء الجهاد السلفى، فإنه يتطلب إستراتيجية على النحو التالي: أولا، جهود بقيادة استخباراتية لكشف و قطع و تدمير العمليات الإرهابية الجهادية. ثانيا، كشف نفاق الجماعات الجهادية وتناقضاتها وفجرها لتقويض سلطتها الأيديولوجية ووضع حد بينها و بين مؤيديها المحتملين. ثالثا، محاربتها فى العلن فقط فى حالة الضرورة وقتل القادة الجهاديين وتدمير سبل التمويل الإرهابى والبنية التحتية المادية.
وفى النهاية، هناك حاجة ضرورية إلى إثارة الجدل حول متى وأين تحديدا يجب أن تقاتل الولاياتالمتحدة؟ وكذلك حول ما هو غير شرعى أو أخلاقى قد يكتنف هذه العمليات. إن العمل الحقيقى لمكافحة الإرهاب يكون عادة هادئا وبعيدا عن الأنظار وخصوصا العامة. والحرب فى كل من العراق و سوريا قد تحقق هدفا واحدا: تفسخ زعامة الدولة الإسلامية وقدرتها على شن التمرد، ولكنه لن يتمكن من احتواء التهديد العابر للحدود الذى قد تفرضه الجماعات الجهادية المتبقية.
وفى ظل اليقظة وعدم الخوف، فإن العمل على إلحاق الهزيمة بالإرهاب الجهادى قد يعنى التحليل الدقيق للتهديدات وتخمين فاعلية الإجراءات المضادة ثم تطبيق الأدوات المناسبة للتهديد الذى تم تحديده بدقة. وفى الوقت الذى قد يعتقد فيه قادة الجهاد السلفى حول العالم أنهم محاضرون فى حرب يحققون فيها حتميا النصر، يجب متابعتهم بالتجاهل وكشف نفقتهم وتناقضاتها، لأن نهاية هذا التحدى تكون عبر المعارضة والدفاع الصبور والوقور.