التوأم يرغب في الالتحاق بمدرسة الطب ووالدهما يلحقهما بالتجارة توفيرا للنفقات الشقيقان يفتتحان شركة إعلانات.. وطلعت حرب يموّل المشروع بلا شروط
عبد الوارث عسر يلقن الطالب محمد عماد درسا فى الالتزام وحب الفن ودوره
لم ينزعج الفنان عبد الوارث عسر، ولم يثر أو يغضب، من رغبة الشاب محمد عماد، في الانسحاب من العرض المسرحي «الملك لير» الذي سيقدم بعد دقائق معدودة على خشبة مسرح «الأزبكية»، ويلعب خلاله دورا أساسيا وبارزا في المسرحية، بل أخذ محمد من يده، وجلس معه منفردا بعيدا عن بقية فريق التمثيل: * ممثل.. لا لا طبعا.. ما فكرتش في كده = يعني أنت لما انضميت للفريق ماكنتش بتفكر ولا بتحلم تبقى ممثل * في الحقيقة أنا ما فكرتش أبدا أكون ممثلا.. لأني نفسي أكون طبيبا.. علشان أخدم بلدي وأعالج المرضى من الفقراء.. وأظن أن ده دور أهم بكتير من أني أكون ممثل = قوللي يا محمد.. لما ده رأيك في التمثيل.. إيه اللى خلاك تنضم لفريق التمثيل * حضرتك = بس كده؟.. وإيه اللي شدك كده في حضرتى لدرجة أنك تعمل حاجة إنت مش حاببها. * أنا ما قولتش مش حاببها.. لكن حضرتك اللى جذبتني ليها = تقصد أن أسلوبي أثر فيك * بالضبط كده = وده شيء كويس ولاوحش؟ * لا كويس طبعا = شوفت إزاي يا ابني.. أن الفنان لو كان صادقا.. يقدر يأثر في كل الناس اللى حواليه.. يقدر يحذرهم من خطر جاي عليهم.. يقدر يعلمهم إزاي يعيشوا.. يعلمهم يستفيدوا من اللحظات الحلوة في الحياة.. وينسوا الألم أو الخوف، وده شيء كويس أوي.. ودور مهم للفنان.. مايقلش عن دور أي الطبيب أو المهندس.. والأهم من كل ده بيعلم الإنسان الالتزام. * فهمت قصد حضرتك = لما وافقت إنك تشترك في المسرحية دي.. الناس صدقت كلامك ووعدك إنك هاتقدم لهم شيء اتفقتوا عليه.. علشان كده لازم توفي بوعدك والتزامك قدام الناس.. مهما كانت التضحية اللي هاتعملها.. وبعد كده أنت حر في قرارك. لقن الفنان عبد الوارث عسر لمحمد عماد درسا بليغا، ليس في حب الفن ودوره وأهميته، بل في الالتزام بما يقطعه الإنسان من وعود، وأن يفي بها مهما كانت النتائج، واقتنع بكلامه بضرورة المشاركة في العرض، لينال فريق التمثيل بمدرسة «التوفيقية» الجائزة الأولى على مدارس القاهرة، والأهم من ذلك، إجادة محمد عماد دوره، لدرجة أبهرت عبد الوارث عسر، قبل الجمهور الذي شاهد العرض، فظن أن التحية التي وجهها له الجمهور والتصفيق الذي ناله، وكلمات الثناء، يمكن أن تكون قد لعبت برأس محمد وعدل عن رأيه، غير أنه فوجئ بأنه لايزال عند رأيه، ولم تقل حماسته ولا طموحه في أن يكون طبيبا.
حلم الطب والطيران كانت أمنية محمد عماد أن يصبح طبيبا أمنية صادقة، وليس مجرد نزوة شاب لم يغادر مرحلة المراهقة بعد، فقد تربي هو وتوأمه على تخفيف آلام الآخرين، وإعادة الابتسامة إلى وجوههم العابسة، وأجسادهم المنهكة، وربما كانت هناك طريق عديدة يمكن أن يفعل بها ما يريد، لكنه اختار أن يكون ذلك عبر الطب، وراح يحلم باليوم الذي يرتدي فيه «المعطف الأبيض» ويضع السماعة فوق أذنيه، ويجيب نداء ملهوف في منتصف الليل، ثم ينتابه إحساس عميق بالراحة، بعد عناء يوم طويل، استطاع خلاله أن ينقذ حياة إنسان، وأبعد الخطر عنه. كما هي العادة، لم تكن تلك هي أمنية محمد بمفرده، بل أيضا كانت أمنية عبد الرحمن، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فما إن فاتحا والدهما في الأمر، حتى فاجأهما بما لم يتوقعاه: = جميل طبعا أن الإنسان يحلم.. لكن مش دايما الأحلام بتكون على حق.. ومش كل اللي بيحلم بيه الإنسان ممكن يحققه. * وإيه المانع حضرتك.. أنا وأخويا متفوقين في الدراسة.. وجايبين مجموع يدخلنا مدرسة الطب. = ده كلام جميل ومنطقي.. لكن انتو كبرتم ومش هاخبي عليكم.. المشكلة في مصاريف مدرسة الطب.. وانتوا اتنين، يعني اضرب المصاريف والكتب وكل حاجة في اتنين * أيوا بس إحنا حضرتك إحنا كنا ... = عارف.. اللي عايز تقوله.. لكن الواحد مش لازم يفكر في نفسه وينسى غيره.. أنا قدرت أعلمكم لحد ما وصلتم للتوجيهية.. وممكن تكملوا تعليما عاليا في أي مدرسة تانية غير الطب مصاريفها بسيطة زي أخوكم الكبير.. علشان أقدر أعلم بقية أخوتكم.. أنتم ناسيين أن عندكم خمس أخوات تانيين، صحيح أنا كنت موظفا كبيرا ومعايا البهوية.. لكن خلاص طلعت على المعاش.. والحال دلوقت غير الأول.. علشان كده باقول تشوفوا مدرسة تانية غير الطب * خلاص.. إيه رأي حضرتك في مدرسة الطيران = أنا مش عايز تخريف.. طيران إيه؟ أهو ده اللى ناقص.. أقول بلاش طب يقولولي طيران.. هي كلمة واحدة.. مافيش غير مدرسة التجارة العليا زي أخوكم.. كويسة وعلى قدنا.. ومصاريفها اتناشر جنيه في السنة.. يعني يادوب.. أعملوا حسابكم على كده.. يلا اتفضلوا على أوضتكم. لم يعترض التوأمان على فرمان الوالد، بل انصرفا طائعين دون مراجعة، ولم تشفع تدخلات الوالدة في إثناء الوالد عن قراره، فالمسألة ليس لها علاقة بالعواطف، بل بميزانية الأسرة ودخلها الشهري، كما لم يكن هناك من يجرؤ على مراجعة كلام الوالد، حتى لو كان ضد رغبة الجميع. التحق التوأمان بمدرسة التجارة العليا، وخصص لهما الوالد مصروفا شهريا جنيها ونصف ريال، على أن يقوم بحجز جنيه لمصروفات المدرسة كل شهر، ليتم تكوين الاثني عشر جنيها مصروفات المدرسة، ويمنح كلا منهما نصف ريال مصروف يد شهريا، أي عشرة قروش فقط، ولم يكن أمامهما سوى الموافقة والشكر، ولم يكن المبلغ كافيا بحال من الأحوال لأقل من أسبوع، لو في الظروف العادية، لكن مع التوأمين، لابد أن يكفي الشهر كاملا، بشرطين أساسيين، الأول إعلان حالة التقشف العام طوال فترة الدراسة، والامتناع عن أي مظاهر ترفيه من مشروبات أو مأكولات، والذهاب والإياب إلى ومن مدرسة التجارة، سيرا على الأقدام، لتوفير أجرة المواصلات، أما الشرط الثاني، والذي لا يقل أهمية عن الأول، بل يزيد، هو أن تكون هناك منح أسبوعية من الوالدة، مما توفره من مصروف البيت، ودون علم الوالد، حتى يستطيعا إكمال دراستهما، حتى بدأت الأمور تستقر إلى حد ما، غير أن أكثر ما كان يؤلمهما هو الذهاب والعودة من مدرسة التجارة، سيرا على الأقدام، وهو ما كان يمثل رحلة عذاب يومية: = أنا تعبت بقى.. أنا هاركب التروماي * أنت مجنون يا بني.. الترماوي يعني ستة مليمات.. يعني مصروف يوم راح = ما هو ده مش حال أبدا.. رحلة العذاب دي كل يوم. * أجمد يا عوبد.. مافيش حاجة بالساهل.. لازم نتحمل في سبيل العلم = عارف.. مقولة بابا الجاهزة.. اطلبوا العلم ولو في الصين * شوفت كرم ربنا بقى.. الحمد لله خللنا مدرسة التجارة في شارع الشيخ ريحان.. مش في الصين. كانت الإعانة الأسبوعية وأحيانا اليومية التي تقوم بها الأم تجاه التوأمين، هي المعين الوحيد لهما على مواجهة البقاء في مدرسة التجارة العليا، في ظل وجود طلاب بعضهم يركب سيارات فارهة، وآخرون يواكبون الموضة في ملابسهم، والبعض الآخر يتباهى بالولائم التي يقيمها يوميا في «نادي التجارة العليا» أشهر نوادي مصر الاجتماعية آنذاك، الكائن في «شارع فؤاد»، والذين استطاعا أن يشتركا فيه مكافأة لتفوقهما، غير أن الجلوس فيه وتناول المأكولات والمشروبات، لم يكن منحة، بل يحتاج إلى ميزانية خاصة، فقررا أن يكون العشاء أو الغداء فيه، مرة واحدة كل أسبوع، عندما يحصلان على إعانة الوالدة، فيقومان بطلب «طاجن اللحم بالخضراوات» إلى جانب الأرز والخبز والسلاطة، مقابل خمسة قروش، ليعودا بعدها إلى البيت سيرا على الأقدام.
تماثل في النجاح والرسوب مثلما أثارا دهشة المحيطين بهما في كل مراحلهما الدراسية، كان لابد أن يثير التوأمان محمد عماد وعبد الرحمن دهشة طلاب وأساتذة مدرسة التجارة العليا، ليس فقط في الشبه الذي جعل الجميع يخطئون في التفريق بينهما، بل أيضا يثيرون الدهشة بإجاباتهما المتماثلة التي تجعلهما ينجحان وبنفس الترتيب، أو يرسبان لنفس الأسباب، ودون اتفاق مسبق بينهما، والأهم من ذلك، أنه إذا أخطأ أحدهما، فيمكن أن ينال العقاب الآخر، أو أن يختلط الأمر على أحد أساتذتهما، مثلما حدث في امتحان الشفوي في اللغة الإنجليزية، أمام «مستر زكي» الذي يشتهر بقسوته وغلاظته، حيث يكفي ذكر اسمه أمام الطلاب، فيصابون بالرعب، حيث يكون هو السبب الأول في رسوب طلبة السنة النهاية، وتأخير تخرجهم، عاما أو ربما عامين، بسبب شدته في الاختبارات. عندما حان وقت الاختبار، تقدم عبد الرحمن، باعتبار أن اسمه يسبق أبجديا اسم محمد، وأدى الامتحان وخرج، وبعد مرور ما يقرب من ثلاثين دقيقة، حان دور محمد، فتقدم ليؤدي اختباره، وما إن تقدم محمد من «مستر زكي» حتى وجده ينظر إليه بنظرات حادة غاضبة: = أنا شوفتك فين قبل دلوقت؟ * ما أظنش حضرتك شوفتني قبل دلوقت = أنا ذاكرتي مش ممكن تخوني.. أنا فاكر إني شوفتك قبل دلوقت.. أكيد إنت عامل حاجة ومش عايزني أعرفها.. علشان كده مش عايز تقول شوفتك فين * صدقني يا مستر ماحصليش الشرف قبل دلوقت = كده.. هانشوف.. اتفضل امسك الكتاب وأقرا أمسك محمد الكتاب وبدأ يقرأ دون تركيز، حيث إن عينيه زائغتان ما بين الكتاب وبين نظرات المستر، حيث يتوقع أن يعصف به في أي لحظة، وفجأة استوقفه مستر زكي بحسم ووجهه يملأه الشر، فوقع قلب محمد في قدميه، وعرف أنه هالك لا محالة، واستدعت ذاكرته على الفور العديد من حكايات الطلبة الذين سبق وعصف بهم مستر زكي، وبدأ يهييء نفسه ليكون أحد ضحاياه: = stop.. افتكرتك.. أنا مش لسه ممتحنك من نص ساعة؟ * لا يا مستر دي أول مرة حضرتك تمتحني = أول مرة.. فاهم إنك ممكن تضحك على زكي.. أنا ماعنديش غير ذاكرة فولاذية ومش ممكن أغلط ابدا. * يا فندم حضرتك عندك حق.. بس فيه سوء تفاهم = آه اعترفت.. وعايز تلزقها في سوء التفاهم * أبدا يا فندم.. سوء التفاهم جاي من أن أنا ليا أخ توأم.. يشبهني لحد التطابق.. لدرجة إن حضرتك مش ممكن تفرقنا عن بعض. = توأم.. إبقى قول الكلام ده في مجلس التأديب.. إنت امتحنت يا أفندي.. وجاي تمتحن تاني بدل طالب فاشل.. دفعلك كام علشان تضيع مستقبلك.. اتفضل يا أفندي انت متحول لمجلس تاديب.. وأبشرك أنك على الأقل هاتاخد حرمان سنتين. طار عقل محمد عماد.. فما يقوله الأستاذ سيتسبب في كارثة، إذا هو نفذ كلامه، كيف سيواجه والده وماذا سيقول له؟ فخرج مسرعا يجري بكل ما تبقى لديه من عزم، ليلحق بشقيقه عبد الرحمن، قبل أن يغادر المدرسة عائدا إلى البيت، ليجده واقفا يشرب زجاجة مياه غازية، فجذبه من يده وجري به دون أن يتكلم، ولم يتركه إلا أمام مستر زكي، ليقدمه إليه، ليجد المستر نفسه كأنه يرى أحد طلابه يقف أمام مرآة، فقطب جبينه غيظا، ليس لشيء سوى أنه لن ينفذ وعده بحرمان هذا الطالب من الامتحان لمدة عامين. أفلت محمد عماد من عقاب «مستر زكي» غير أنه لم يكن يستطيع أن يفلت من مطاردة «فريق التمثيل» بمدرسة التجارة، فكلما غدا أو راح، وجد أمامه ذلك الإعلان الذي يحث الطلبة من أعضاء فريق التمثيل بالتجمع في المسرح، فتذكر ما قاله له الفنان عبد الوارث عسر، حول قدراته كممثل إذا ما قرر أن يتجه للتمثيل، كما تذكر رده عليه، بأنه لم يكن من أحلامه أو رغباته، بسبب حلمه الأكبر في أن يكون طبيبا، لكن إذا كان حلم الطب قد انتهى إلى غير رجعة، فلما لا يجرب حلم التمثيل؟ لم يتردد محمد عماد طويلا في الانضمام إلى فريق التمثيل بمدرسة التجارة العليا، وسرعان ما اندمج معهم، ليلقى وجوده بينهم ترحيبا كبيرا، خصوصا بعد أن أثبت موهبته المميزة في عدد من العروض المسرحية التي شارك فيها معهم، ولاقت أدواره خلالها استحسان الجمهور من طلبة مدرسة التجارة، وغيرها من المدارس العليا مثل الطب والهندسة والحقوق، ما جعله يفكر في البحث عن فرقة مسرحية أكبر، وأقرب إلى مستوى الاحتراف، لكن أين هي تلك الفرقة التي يمكن أن تقبل بممثل هاو مغمور لا يعرفه سوى بعض زملائه في مدرسة التجارة، وعدد من المقربين.
حنين إلى التمثيل لم تكن الفرق المسرحية التي يمكن أن يجد فيها محمد عماد نفسه كثيرة، غير أنها على قلتها، فإنها تضم عمالقة المسرح العربي، كفرقة جورج أبيض، أو «فرقة رمسيس» للفنان يوسف وهبي، وفرقة فاطمة رشدي وعزيز عيد، إضافة إلى فرقة منيرة المهدية، وجميعها تضم أسماء لكبار الممثلين، حتى دله أحد الأصدقاء على فرقة «أنصار التمثيل والسينما» التي تفتح أبوابها للهواة، فشعر بأنه وضع قدمه على الطريق الصحيح، غير أن إحساسا بالسعادة تضاعف، عندما وجد أن المشرف على الفرقة هو الفنان سليمان نجيب، ومعه الفنان عبد الوارث عسر، أول من اكتشف موهبته، وعلمه فن التمثيل والإلقاء، فوجد فيها النافذة التي يمكن أن يستنشق من خلالها عبير الفن المسرحي. لم يكن هناك أكثر سعادة من محمد عماد، بانضمامه إلى فرقة «أنصار التمثيل والسينما» سوى الفنان عبد الوارث عسر، باقتناع أحد تلاميذه بدور الفن وأهميته، ليصبح عماد خلال وقت قصير، أحد الممثلين الأساسيين في الفرقة، التي قدم معها أكثر من عرض من الكلاسيكيات العالمية، غير أن سعادته لم تدم، كما لم تدم فرحة أستاذه عبد الوارث عسر، بعد أن أعلن كشف الناجحين في مدرسة التجارة العليا، عن تخرجه وحصوله على دبلوم التجارة العليا، هو وشقيقه عبد الرحمن، لتنتهي مرحلة الدارسة، وأصبح التوأمان يقفان على أبواب مرحلة جديدة ومختلفة، انتقلا فيها إلى مرحلة «الرجولة» وتحمل المسئولية، مسئولية نفسيهما على الأقل، أمام الأسرة، وكان عليهما إيجاد إجابة سريعة للسؤال الأهم: ماذا بعد؟ مثلما تماثل التوأمان في الشكل والطموح والأفكار، اتفقا أيضا على شكل المستقبل، فقد رفض كلاهما الوظيفة وقيودها، وقررا أن يخوضا تجربة العمل الحر، من خلال إنشاء مشروع خاص بهما، ينجحان فيه، ويحققان من خلاله طموحاتهما. بعد تفكيرٍ طويل، اهتدى التوأمان إلى إقامة مشروع تجاري، بفتح مكتب «وسيط إعلاني» بمعني أن يكون المكتب وسيطا بين المعلنين وبين الصحف التي تقوم بنشر الإعلانات، حيث يقوم المكتب بتصميم الإعلان ورسمه، وكتابة كلماته، وتقديمه للصحف جاهزا للطباعة والنشر، وهو مشروع مضمون النجاح والربح، لكن من أين لهما برأس المال، خصوصاً أن الأسرة لم يعد لديها ما يمكن إعطاؤه لهما، في ظل وجود ستة أشقاء آخرين، لايزالوا في مراحل التعليم المختلفة، لكن قبل أن يصابا باليأس والإحباط، خطرت على بال محمد عماد فكرة، وجد عبد الرحمن أنها ليست مجنونة، لكنها قد تكون شبه مستحيلة.
فكر اقتصادي برغم ما تمر به مصر من حالة كساد اقتصادي بعد الحرب العظمى، وبعد عامين فقط من إنشاء بنك مصر، قام طلعت حرب عام 1922 بإنشاء أول مطبعة مصرية برأس مال قدره خمسة آلاف جنيه لدعم الفكر والأدب وتقوية المقاومة الوطنية، ليتوالى بعدها إنشاء الشركات المصرية عبر البنك، مثل شركة مصر للنقل البري، التي قامت بشراء أول حافلات لنقل الركاب، كما قامت الشركة بشراء الشاحنات الكبيرة لنقل البضائع من الموانئ، كما أنشأ شركة مصر للنقل النهري، ثم شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، واستقدم خبراء هذه الصناعة من بلجيكا، وأرسل بعثات العمال والفنيين للتدريب في الخارج، كما أقام مصنعا لحلج القطن، وأنشأ مخازن لجمع القطن في كل مديريات مصر، ثم ساهم في إنشاء «شركة مصر للتمثيل والسينما» في عام 1927، لإيمانه بأن تجديد الاقتصاد في بلد زراعي متخلف، لن يتم إلا عبر ازدهار الثقافة واستنارة العقول بالأفكار الجديدة والثقافة الرفيعة. فكر محمد عماد في أنه إذا كان الاقتصادي الكبير طلعت حرب، يقدم للوطن كل هذه المشاريع الاقتصادية الناجحة، وبتمويل من «بنك مصر» فما المانع أن يقوم بتمويل مشروعهما الصغير، خصوصاً أنه يشجع كل فكر جديد، ويعمل على تحفيز الشباب، إضافة إلى أن مشروعهما مضمون النجاح، لأن فكرته جديدة وغير موجودة، فقرر محمد عماد أن يذهب إلى بنك مصر، ويطلب لقاء طلعت حرب. حاول عبد الرحمن أن يثنيه عن القيام بهذه المحاولة المحكوم عليها بالفشل مقدما، لأن طلعت حرب لن يترك إدارة مشاريعه الضخمة، واستثماراته بمئات الآلاف، ويقتطع جزءا من وقته ليجلس يستمع إلى تفاصيل مشروع بميزانية بعدة مئات من الجنيهات، لكن محمد عماد لم يحبطه ذلك، وفي صباح اليوم التالي توجه مباشرة إلى البنك، وطلب مقابلة طلعت باشا حرب، وهو يتوقع أن يخرج السكرتير ليطلب أمن البنك لتوصيله إلى الشارع، غير أنه فوجئ به يخرج، ليخبره بأن الباشا في انتظاره. بعد عدة دقائق من دخوله البنك، وجد محمد عماد نفسه جالساً أمام الاقتصادي الكبير طلعت باشا حرب، وقام بشرح فكرة المكتب الذي قرر إقامته بالمشاركة مع توأمه واثنين آخرين من الزملاء، لديهما خبرة في الرسم والتصميم: * يا باشا احنا أربعة من خريجي مدرسة التجارة العليا.. وعايزين نفتح مكتب لتسويق الإعلانات للصحف والمجلات = هايل يا ابني.. مشروع هايل.. وفكرة جديدة ومعتبرة * لكن المشكلة إمكانياتنا المالية محدودة.. وده السبب اللي خلاني آجي أقابل حضرتك النهاردة = وأنا موافق * نعم = باقولك موافق.. أنت مش جاي علشان بنك مصر يمول المشروع.. أنا موافق * من غير حضرتك ما تعرف ميزانية المشروع ولا تفاصيل التسويق ولا حتى نسبة النجاح والفشل = شوف.. أنا عمري ما أراهن على شيء فاشل.. أنا واثق أنكم هاتنجحوا.. وعلشان أكد لك كلامي.. أنا مش بس ها مول المشروع.. لا .. أنا كمان هادي شركتكم دي كل الإعلانات الخاصة بشركات بنك مصر. * أنا مش عارف أقول لجنابك إيه يا باشا؟ = ماتقولش حاجة.. سيب لي الدراسة دي أنا هأقراها النهاردة.. وبكرة الصبح هايتصرف لكم التمويل اللازم.. وعايز أشوف شغلكم في أقرب وقت. خرج محمد عماد وهو لا يكاد يصدق نفسه، فقد أصبح الحلم حقيقة وواقعا ملموسا خلال عدة دقائق، بعد أن أدهشه هذا الرجل الذي يشبه نبلاء الأساطير. استأجر الزملاء الأربعة مكتبا فخما في «شارع شريف» على بعد خطوات من «بنك مصر» واستعان التوأمان بأدوات الرسم التي كان يستعملها والدهما، في رسوماته الهندسية، وقاما بنقلها إلى المكتب الوليد، ليبدأ الشركاء الأربعة على الفور عملهم الجديد.