حصة شهرية تموينية من القصدير تصرف له من مصلحة الدمغة والموازين يقاس مدى ثراء الأسرة أو فقرها بعدد أوانى النحاس التى يمتلكونها
تسمع عنهم فى قصص وروايات “نجيب محفوظ “ و”يحيى حقى “فى حكايات الحرافيش والحارة المصرية، وتراهم فى صور التراث والأفلام القديمة، هم أصحاب مهن قد تبدو غريبة اليوم أو منقرضة ولكنها فى وقتها كانت ذو أهمية وحاجة شديدة لأهل مصر المحروسة كما كان يطلق عليها وقتها فى بدايات القرن العشرين، ومن تلك المهن (الطرابيشي، ومكوجى الرجل، ونافخ الكير، وترزى الجلاليب، ومبيض النحاس) وتلك المهنة الأخيرة كانت مهمة لكل بيت فى وقت كانت فيه كل أوانى البيت من النحاس، وكانت لا تستطيع ست البيت تنظيفها بعد أن يتم جنزرتها، والأوانى “المجنزرة” (هى التى اخضر لون النحاس فيها)، مما يتسبب فى تسمم من يأكل فيها وهى بهذه الحالة، لذلك كانت مهنة مبيض النحاس مهمة جدا لكل البيوت خصوصا تبييض تلك الأوانى النحاسية كان يحتاج قوة ومجهودا لا تقدر عليهما ست البيت. مهنة “مبيض النحاس” كانت من المهن المزدهرة على مدى سنوات طويلة ولها مكانة كبيرة فى المجتمع، وكانت تدر ربحا كبيرا على من يعمل بها، وكانت أسر بعينها تشغل مهنة “مبيض النحاس” وتقوم بالترحال إلى القرى والإقامة فيها لمدة معينة لتبييض النحاس مقابل المال، وقد كان لمبيض النحاس يوم محدد أسبوعيا، يمر فيه على الحى أو القرية ويتجمع الأهالى محضرين معهم أوانيهم النحاسية، وغالبا ما كانت تشاركه زوجته العمل أو أحد أبنائه. وظلت مهنة تبييض الأوانى النحاسية مهنة رائجة من ثلاث قرون مضت حتى الستينيات من القرن الماضى، وقت استخدام هذه الأوانى بصفة أساسية فى الطبخ، واختفت تلك المهنة أخيرا بسبب استبدال الأوانى النحاسية بأخرى مصنوعة من البلاستيك والألومنيوم والزجاج والمواد الخام الأخرى. وفى هذا الزمن كان يقاس مدى ثراء الأسرة أو فقرها بعدد أوانى النحاس التى يمتلكونها. التى كانت جزءا لا غنى عنه فى كل بيت مصرى، خصوصا فى جهاز العروسة التى كانت تتباهى بين الناس بنحاسها.. من حلل وأوان وأطباق واستكانات القهوة وقدرة الفول، وفى الريف المصرى كانت الأسر تقتنى النحاس اقتناءها للذهب، خصوصاً عندما يتقدم شاب للزواج بإحدى بنات القرية، فالكلام عن النحاس كان بنفس قيمة الكلام عن الذهب فى قائمة المنقولات، “كم جرام من الذهب وكم قنطار من النحاس «ومن كثرة أهميته كان النحاس يورث بين بنات الأسرة، وعندما كانت الأسر تمر بضائقة مادية كانت تبيع نحاسها، ومن الطرائف المرتبطة بالنحاس، أن الريفيين كانوا إذا ضبطوا لصاً لدى أحدهم، «يُشيّلُونه نحاس البيت»، ويدورون به فى شوارع القرية ليُجرسُوه بفعل السرقة، ومن هنا جاءت كلمة «زفُّوه بالنحاس» دلالة على فضيحة من يضبط بجريمة ويفتضح أمره بين الناس. ولمبيض النحاس أدوات أساسية يستخدمها فى تلميع الأوانى النحاسية، وهى عبارة عن كير الفحم وبعض المواد المذيبة للصدأ والجنزرة، فى عملية “الدعك” لترجع الأوانى النحاسية مثل “الهون والأوانى والحلل والطشت والصينية وكفات الموازين والبراد والكنكة والأباريق والمناقد” وغيرها من الأدوات المنزلية، كما كانت جديدة تزهو وتلمع، وبعد نظافة النحاس بالتراب الأحمر يدهن بماء النار المغموس بها الزنك، ثم يوضع على النار ويتم تبييضه بالقصدير مع دعك القصدير بالقطن وهو على النار حتى يصير النحاس أبيض لمعا ثم يطفأ بالماء ويتم شطفه بعد غسيله بالرمل، وكان لمبيض النحاس حصة شهرية تموينية من القصدير تصرف من الجمالية غالبا من مصلحة الدمغة والموازين. تبيض النحاس كان يحتاج إلى جهد كبير فى تنظيفه، وسخونته الشديدة كانت تحتاج إلى قدرة هائلة على الاحتمال، كان «مبيض النحاس» يحتاج إلى قوة عضلية وكان يقاوم آلام المهنة بالغناء الشجى والمواويل، فيعفيه من التأوه، حتى لو كان الغناء غير مفهوم، المهم أن يتوافق مع حركة جسده، ويكون فاعلا فى مقاومة حرارة، وكان يضع طبقة كبيرة من الخيش مع مادة الطوب الأحمر، ويقوم بالوقوف داخل الأوانى ويتحرك بداخلها بقدميه بحركة دائرية منتظمة وكأنه يرقص، ثم يقوم بعد ذلك بغسل الأوانى جيدا وتسليمها لأصحابها جميلة وبراقة، ويقوم الأهالى بإعطائه ما يجودون به من مال ومن خيرات البيت. وكان مقر تلك المهنة موجود بالقاهرة فى سوق الفوالة بعابدين، حتى منتصف الستينيات، حيث أصبح مبيض النحاس أخيرا يرسل العمال لديه ليستلموا النحاس من الشقق كل شهر بالقطعة، ويحضرهم فى اليوم التالى وكان يوجد تسعيرة كل قطعة كما حال المكوجى، أما الآن فاقتصر عمل مبيض النحاس على تلميع التحف النحاسية المختلفة ويذهب صاحب التحفة للبحث عنه فى حوارى الغورية والحسين والأزهر لكى يجدوه. كما جسدت السينما شخصية مبيض النحاس فى معظم الروايات نجيب محفوظ التى تحكى عن الحارة المصرية والحرافيش والفتوات، لأنها كانت مهنة للرجال الأقوياء الفقراء، وفى فيلم فتوات بولاق الذى تم عام 1981 للنجوم نور الشريف وفريد شوقى وبوسى وسعيد صالح، جسد النجم نور الشريف شخصية محروس مبيض النحاس، الذى تمرد على مهنته وطمح ليكون أحد رجال المعلم عباس فتوة حى بولاق لينتقم من أعدائه.