تجربة اللجوء فى حد ذاتها تجربة إنسانية عامة وشاملة، لم تفلت منها قارة على وجه الأرض، ولا ثقافة من الثقافات، لم ترحم ظاهرة اللجوء أى مجتمع على وجه البسيطة، من آسيا إلى أوروبا، انتهاء بأمريكا، وكما يشير “فولفجانج باور” فى كتابه “هاربون من الموت”: “أستطيع القول من تجربة شخصية، من بين كل معارفى ليس هناك أى شخص لم يكن أجداده لاجئين فى زمن ما، بعضهم لا تزال تجربة اللجوء قريبة فى تاريخه العائلي، تعود إلى بضع سنوات فقط، بينما يتحدث آخرون عن نفس التجربة، التى حدثت منذ قرون عديدة، حتى عائلتى الضيقة تتكون من أناس أصولهم بطريقة أو بأخرى من البرتغال، من أوكرانيا، وبولندا، وإيطاليا، كانت ألمانيا محطتهم الأخيرة على طريق الهرب واللجوء، فيما كان بعضهم الآخر مهاجرين من مناطق فقيرة من ألمانيا نحو مناطق أكثر غنى. هذه التجارب – كما يوضح “فولفجانج باور” فى كتابه الصادر عن دار العربى للنشر والتوزيع بترجمة جمال خليل صبح – لم تغير الأشخاص الهاربين من أقدارهم فقط، لكنها غيرت أيضا البلاد التى ذهبوا إليها، هناك أقاليم مجتمعية تعرضت لضغوطات كبيرة وعميقة بسبب موجات اللجوء من البشر، وذلك بسبب عدم قدرتهم على استيعاب ودمج القادمين إليها لسبب أو لآخر، لقد غرقت هى الأخرى فى تناقضاتها القديمة والجديدة، إلا أن هناك بلادا استطاعت أن تستوعب الطاقات الكامنة عند هؤلاء المهاجرين الجدد، واستطاعت قبل أى شيء أن تستخدم تلك الموارد خير استخدام، وذلك عبر اكتشاف ودعم إمكانيات ومواهب هؤلاء الغرباء وتنميتها وتطويرها من أجل ارتقاء هذه المجتمعات نحو درجات أفضل على سلم المدنية والحضارة. يرى المؤلف أن قدر مصر الجغرافى أن تكون حلقة وصل بين عوالم مختلفة، تحيط بها حربان أهليتان اندلعتا فى سوريا وليبيا، وجعلتا من أرض الكنانة كقطعة فلين طافية على سطح بحر متلاطم الأمواج، تقذفها من جانب لآخر ومن جهة لأخرى، ومن مصر كان مؤلف هذا الكتاب يقطع رحلة هرب مجموعة من السوريين إلى أوروبا، يقول: “صممت أنا والمصور “ستانيسلاف كروبر” أن نرافقهم فى رحلتهم المجهولة، محاولين عبور البحر من مصر إلى إيطاليا، لقد سلمنا قدرنا لمهربين لم يكونوا يعرفون أننا صحفيون، كانوا يضربوننا بالعصى كالآخرين ويطلبون منا أن نسير بسرعة، كى لا يلاحظ أحد المجموعة التى كنا ضمنها لا يمكن أبدا أن يقبلوا صحفيين فى رحلات كهذه، حتى لا يتسرب شيء إلى الجهات الأمنية”. قدم الصحفى والمصور أنفسهما إلى رفاق الرحلة على أنهما هاربان من القوقاز، لم يكن هدفهما من ذلك سوى أن يوثقا بالحس والخبرة والتجربة الملامسة للواقع ماذا يعنى بالضبط الهروب واللجوء، خصوصا أن هذا الصحفى عمل لسنوات فى مناطق ساخنة بالشرق الأوسط، وفى كل مرة كان يقول لنفسه لم أعد أحتمل متاعب ما أرى وما أنقل من مشاهدات، هنا يقول: “فى رحلتنا مع الهاربين كنا نمر بلحظات قريبة من هذه، نرغب فيها بالاستسلام والرجوع عن الاستمرار، كان الخوف فيها يتملكنا، ويأخذ بأرواحنا ويذيب قوتنا ويجعلها خائرة تماما”. ورغم ذلك فقد كان الصحافيان يمتلكان ميزة لم تكن من نصيب أى أحد من السوريين، فالإمكانية مفتوحة فى كل وقت للرجوع بشكل آمن، هذا كان حلما للسوريين الهاربين من الجحيم، فبلادهم صارت كقطع اللحم التى يتناوب على التهامها الذئاب من كل حدب وصوب، يقول “فولفجانج باور”: “تعرفنا إلى نساء ورجال غاية فى الروعة، عرفونا وعلمونا ماذا تعنى الصداقة الحقة، ماذا يعنى سمو النفس والعزة والأدب الجم، علمنا بعد حين أن بعض هؤلاء الذين التقيناهم فى رحلتنا لم يعودوا على قيد الحياة، لهم ولأرواحهم نهدى هذا الكتاب”.
قراءة أنثروبولوجية فى التوراة أصدرت دار «رؤية» للنشر والتوزيع» كتاب جيمس فريزر «الفلكلور فى العهد القديم» ترجمة د. نبيلة إبراهيم، حيث تتصدر الكتاب مقدمة تستشهد فيها المترجمة بما قاله فريزر عن كتابه: «حاولت فى هذا الكتاب أن أسير على هدى الدراسات الفولكلورية، متقصياً بعض المعتقدات الإسرائيلية القديمة، وأنماط السلوك الفكرى والعلمى فى المراحل الأكثر قدما وفجاجة، تلك التى تشبه ما نجده لدى القبائل البدائية، التى تعيش حتى اليوم، من معتقدات وعادات». يقول: «إذا كنت قد حققت أى قدر من النجاح فى هذه المحاولة، فإنه سيكون من الممكن النظر إلى تاريخ بنى إسرائيل فى ضوء أكثر صدقا، وإن يكن أقل رومانسية بوصفهم شعبا، لا يميزه الوحى الإلهى عن غيره من الشعوب من مرحلة بدائية يسودها الجهل والهمجية، وذلك عن طريق عملية انتخاب طبيعى بطيء». نجح فريزر فى تحقيق هدفه إلى حد كبير، فكان يضع يده على طقوس وعادات قديمة، ترد بين ثنايا العهد القديم، من الممكن أن يمر بها القارئ مرور الكرام، دون أن يفكر فى مغزاها وأصلها، ومثال ذلك ما ورد فى سفر التكوين، بصدد مقتل هابيل بيد أخيه قابيل. استطاع فريزر من خلال القراءة المتفحصة للتوراة، ومن خلال تخصصه العميق فى علم الأنثروبولوجيا، أن يحصى ما فى التوراة من تقاليد وعادات وتصورات بدائية، وأن يقوم بتحليلها وفحصها واستبيان كنهها عن طريق المنهج الأنثروبولوجى المقارن، وتوضح د. نبيلة إبراهيم أن ما كان ينقص منهج فريزر هو توسيع نطاق العمل الميداني، واستكشاف الروح الإنسانية من جانبيها العقلى والعاطفي، وذلك عن طريق الربط التام بين جميع ممارسات الإنسان وسلوكه، فكثيرا ما اعتمد فريزر فى دراساته على ما دونه المبشرون عن القبائل البدائية، وكثيرا ما اعتمد فى أبحاثه على دراسات الباحثين بدلا من اعتماده على الاتصال المباشر بالناس عن طريق العمل الميدانى ذلك أن منهجه كان يعتمد على جمع الحقائق جمعا مستقصيا، وبشتى الطرق، بقصد إثبات نظريته فى ظاهرة من الظواهر الإنسانية، ولهذا أخفق فى أن يجد تفسيرا لبعض الظواهر الاعتقادية، ومثال هذا أنه قد تحدث بصدد بحثه عن تقديس بعض الأشجار، عن عادة تعليق الخرق الملونة عليها، ومع استقصائه فى البحث بقصد تأكيد هذه الظاهرة، لم يقدم أى تفسير لمغزى تعليق الخرق على الأشجار بقصد التوسل إلى روح الشجرة، وسبب هذا أنه لم يكن يهتم باستكناه مغزى الفعل بقدر ما كان يهتم بسرده. مع هذا فقد قدم فريزر للقارئ المتخصص مادة وافرة لا غنى عنها فى دراسة الحياة الإنسانية، وقد استطاع أن يثبت - عن طريق دراساته المقارنة - تلك التقاليد والمعتقدات التى تختلف مع الإنسان عبر التاريخ، والتى ترجع فى أصولها إلى الحياة البدائية الأولي، وبهذا استطاع أن يستكشف ما تخلف فى التوراة من معتقدات وعادات قديمة، كان لها أبلغ الأثر، فيما اتسم به الدين اليهودى من جوانب ضعف، فضلا عن أنها كشفت عن شخصية اليهودي، الذى استغل الدين فى سبيل تحقيق أطماعه المادية.
تاريخ الأقباط.. قضية كل المصريين يتناول الكاتب الراحل «أبو سيف يوسف» فى هذا الكتاب الصادر عن «دار العين للنشر والتوزيع» وعنوانه «أقباط مصر التاريخ والقضية» تاريخ الأقباط منذ العصر القبطي، الذى كانت ترزح فيه مصر تحت الحكم البيزنطي، ثم العصر الإسلامى بكل مراحله، انتهاء بالعصر الحديث، إنه يؤرخ للأحوال السياسية والاجتماعية لمصر كلها، وليس فقط الأقباط، وذلك عبر المعلومات الغزيرة، التى يقدمها فى مختلف الحقول المعرفية، فيهتم فى المجال السياسى بأن يوضح طبيعة السلطة الحاكمة فى كل عصر، ونظام الحكم الذى تتبعه، وفى المجال الاقتصادى يحرص على تحديد نمط الإنتاج السائد، أما فى المجال الاجتماعى فإنه يهتم بكشف الأوضاع الطبقية، لمختلف شرائح الشعب المصري، وفى المجال الثقافى يرصد التيارات الفكرية السائدة فى المجتمع فى كل عصر، والمفكرين الذين يروجون لها. يقدم المؤلف تحليلا عميقا لتفسير الظواهر التاريخية، وسبر أغوار التحولات الاجتماعية، ويزخر الكتاب بالعديد من ملاحظات المؤلف، منها ما أورده حول العلاقة بين النزعة القومية والموقف الديني، وتكوين مصر العربية، وتغيير لغة المصريين من المصرية القديمة إلى العربية، ويلتزم المؤلف بمنهج علمى عقلانى دقيق، يتميز بالموضوعية والحياد، وينتقد فى مقدمته ما تتعرض له كتابة التاريخ من اجتزاء أو أحكام مسبقة، كما يرفض النظريات والمناهج المثالية فى فهم التاريخ. وقد أكد الكتاب رسوخ الوحدة الوطنية بين مسلمى مصر ومسيحييها، وعلى وعيهم بالمصير المشترك لهم، وبأن الوطن لا يمكن تقسيمه، وحدد المؤلف أسس الاندماج الوطنى والتكامل الاجتماعى بين المصريين، وكشف الصعاب التى تعترض طريق هذا التكامل، كما درس المخاطر الخارجية والداخلية، التى تتربص بالشعب المصري، وتختتم الدراسة بتقديم رؤية مستقبلية من أجل تدعيم الاندماج الوطنى فى مصر، وحل أى مشاكل تعترضه، وذلك من أجل المضى قدما على طريق بناء مستقبل مزدهر لكل المصريين. يقدم المؤلف تفاصيل مهمة عن تعريف الأقلية والإثنية وعلاقتها باللغة، كما أورد توقعات مستقبلية، ثبتت صحتها فى الأعوام، التى تلت صدور هذا الكتاب، ومنها سعى بعض القوى الخارجية تفتيت الدول العربية إلى كيانات صغيرة، عن طريق إثارة النعرات الطائفية، وتأجيج الصراعات المسلحة داخلها، وقد صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب فى بيروت عام 1987 عن “مركز دراسات الوحدة العربية” وحظى باهتمام كبير آنذاك باعتباره كتابا تأسيسيا رائدا ودراسة تاريخية وسوسيولوجية، فالمؤلف هو المناضل السياسى والكاتب الصحفى صاحب التاريخ النضالى الطويل والعطاء الفكرى المتميز أبو سيف يوسف. وقد استغرق هذا الكتاب أكثر من سبع سنوات، عكف خلالها على البحث فى مئات المراجع والدوريات والوثائق، ومن أهم آرائه أن “الطائفية تولد الطائفية والانقسام يولد الانقسام” وقوله إن “قضية العلاقات بين أتباع الأديان أخطر من أن تترك فى أيدى رجال الدين وحدهم، بل هى مسئولية الدولة بمؤسساتها، إلى جانب المجتمع المدني”. يشير “راجى شوقى ميخائيل” فى تقديمه للطبعة الجديدة من الكتاب إلى أن “الهدف من إعادة الطبع، هو تقديم تعريف واف بتاريخ الأقباط، الذى هو تاريخ كل المصريين، إلى جانب توفير فهم أفضل لقضيتهم، وهى عينها قضية كل المصريين، أى قضية حقوق الوطن والمواطن، مستهدفين من وراء ذلك الحفاظ على مصر، كدولة موحدة قوية مزدهرة، قائمة على العدل والمساواة بين جميع أبنائها.
الفن نوع من الثورة على الواقع الفن ليس مجرد ظاهرة جمالية فحسب، فارتباط الفن بالسياسة كان ولا يزال يمثل قضية أساسية فى تاريخ الفكر الغربي، بل يمكن أن نتلمس جذور هذه القضية فى بواكير الفكر عند اليونان، فأفلاطون قد فطن إلى هذا الارتباط، حتى إنه حارب التجديد فى الموسيقى، باعتبار أن هذا التجديد يمكن أن يجلب تغيرا فى الميول والطباع والخلق إلى الحد الذى يمكن أن يجعل أثينا فى النهاية تقع تحت رحمة أعدائها على حد قوله، ومع أن أفلاطون قد فطن بذلك إلى قدرة الفن على التأثير فى الواقع، فإن الفهم الأفلاطونى لمسألة الفن وعلاقته بالواقع السياسى والاجتماعى يظل فى هذا الإطار التبريري. تؤكد د. حنان مصطفى فى كتابها «فلسفة الفن عند هربرت ماركوزة» أن هذا الإطار التربوى للفن هو ما يسميه «هربرت ماركوزة» بالطبع الإثباتى أو التوكيدى للفن، فى مقابل طابع النفى فى الفن، بمعنى قدرته على السلب وتغيير الواقع، فهذه المسألة لم تكن تخضع للبحث والفهم باعتبارها إيجابية للفن، وإنما باعتبارها قيمة سلبية ينبغى استبعادها واستهجانها، فحتى هيجل الذى يدخل مفهوم السلب أو النفى فى صلب مفهومه عن الفكر والفن فى علاقته بالواقع، ينتهى إلى تبرير الفن الموضوعى الذى يبلغ غاية تطوره فى الدولة المسيحية الجرمانية، ويستهجن الذاتية فى الفن، باعتبارها العنصر الذى يموت فيه الفن. أما عن ماركوزة فإنه يرى أن راديكالية الفن وطابعه الثورى قد أصبحت مطلبا ملحا فى المجتمع المعاصر، الذى أصبح يتسم بالتشيؤ والاغتراب، ما أدى إلى التبعيد بين الفنان والمجتمع، وهذا هو ما دفع ماركوزة إلى التأكيد على الفردية والذاتية فى مواجهة النزعات السلطوية المختلفة، التى تحاول تسييس الفن، وقمع طاقاته الثورية، وهذه الراديكالية المميزة للعمل الفنى عند ماركوزة لا ينبغى أن تطمس البعد الماهوى للفن، المتمثل فى بعده الجمالي، فالحساسية الجديدة التى ينبع منها الفن، ويمثل من خلالها تمردا للذات على الواقع، هذه الحساسية الجديدة التى تسعى إلى تحقيق ثورية الفن، إنما تسعى إلى ذلك من خلال الشكل الجمالي، أى من خلال لغة خاصة بها تبقى فى قطيعة تامة مع مفردات لغة السيطرة، التى يحتكرها المجتمع ذو البعد الواحد، وبذلك فإن هذه الحساسية تسعى لفهم دور الفن، باعتباره عنصرا فاعلا فى التحرر. تمثل فلسفة ماركوزة طرحا جديدا ورؤية جديدة للفن، فالعمل الفنى عنده وإن كان مرتبطا بالواقع، فإنه فى الوقت نفسه يمثل خروجا عليه، فالفن بفضل حساسيته الجديدة يمثل تمردا للذات على الواقع، إلا أن هذا الخروج يأتى خلافا للرؤية الماركسية للفن، التى أهملت بعده الجمالى مثلما أهملت طابعه الذاتي، ونظرت إلى الفن على أنه انعكاس أمين للواقع، وبذلك يمكن القول إنه إذا كان ماركوزة قد اتفق مع الماركسيين على أن الفن يمثل نوعا من الثورة على الواقع، إلا أنه قد اختلف معهم فى أن هذه الثورة، لا تتحقق بطريقة مباشرة، لأن الفن كلما تحرر من عملية عكس الواقع بطريقة مباشرة، أظهر قدرته على التبعيد، من هنا فإن الفن التجريدى يعد أفضل الفنون عند ماركوزة لأنه أكثر الفنون تحررا.