تدمر كانت محور اهتمام وأحاديث الليدى إيزابيل بيرتون قرينة الرحالة البريطانى الأشهر ريتشارد بيرتون وقررت الرحيل إليها لبت الليدى دجبى نداء الشرق وبدأت رحلتها من بيروت واخترقت بادية الشام إلى تدمر وكان قائد القافلة الشيخ مجول المصرب شيخ عشيرة «السبعة»
«تدمر» من أقدم المدن الأثرية فى العالم.. تبعد نحو 215 كم شمال دمشق وحملت الطابع الإغريقى بأبنيتها الملكية وأعمدتها وأبوابها
وحشية لم تعرفها الإنسانية فى تاريخها، هى دستور هذه الجماعات الإرهابية ( صناعة أمريكية – تركية – قطرية ) التى تستهدف دمار الأمة وزوال تاريخها وفناء حضارتها، اجتاحت بلاد الرافدين ودمرت مواقع أقدم تراث إنسانى ومتحف بابل بكل ما يحتويه من كنوز، ثم اجتاحت سوريا ودمرت أيضا عدد من الكنوز الحضارية والمساجد الأثرية إلى أن وصلت إلى مدينة "تدمر" التاريخية فدمرت معبد "بعلشمين" ومعبد "بل" وعدداً من الأعمدة الأثرية الشهيرة، ثم فجرت "قوس النصر" أو قوس هادريان فى الخامس من أكتوبر عام 2015 .. كما تم ربط عدد من الأشخاص فى ثلاثة أعمدة وتفجيرها فى السابع والعشرين من نفس الشهر! وعقب معارك دامية تمكن الجيش السورى من تحرير تدمر.. إلى أن عاودت العصابات الإرهابية اقتحامها وسيطرتها مرة أخرى على المدينة، عقب انسحاب القوات السورية باتجاه "حلب" واستكمال تحرير شرق المدينة فى معركة فاصلة. ومنذ نهاية فبراير الماضى دارت معارك طاحنة عند مفترق مثلث تدمر الإستراتيجى، ومحاولة العصابات الإرهابية السيطرة على الحقول النفطية فى بادية تدمر، وعلى الرغم من استخدام تلك العصابات للسيارات والألغام والانتحاريين، فقد نجح الجيش السورى فى استعادة منطقة "السخنة" شمال تدمر لتأمين المدينة والتقدم باتجاه الطريق الواصل بين تدمر ودير الزور، والسيطرة على المرتفعات التى تتحكم فى غرب تدمر "جبل الهايل" و"المقالع" و"جبل الطار" وغيرها. وظروف تحرير مدينة تدمر – للمرة الثانية – لا تبدو مشابهة لما كانت عليه منذ نحو عام، لا سيما على صعد جبهات القتال وصمود الهدنة الروسية – التركية للشهر الثالث على التوالى، ما يفتح الطريق لتوسيع "طوق الأمان" فى مختلف الاتجاهات لتحصين تدمر من أى اختراق إرهابى! وتعد "تدمر" من أقدم المدن الأثرية فى العالم، تبعد نحو 215 كم شمال دمشق، حملت الطابع الإغريقى بأبنيتها الملكية وأعمدتها الكورنثية وأبوابها وقوس النصر والمسرح والمدرج والساحة العامة، وقصورها ومعابدها خصوصا معبد "بل" إله الشمس وحامى المدينة الذى يبرز فى النقوش والمنحوتات التدمرية، وكان هذا المعبد هو الأشهر فى الشرق القديم، بالإضافة إلى تماثيل "زاخوس" إله الخمر و "عشتار" آلهة الخير، والشارع المستقيم الذى تحفه الأعمدة الأثرية ويمتد لعدة كيلومترات، ثم قلعة ابن معن وسبيل حوريات الماء ومجلس الشيوخ والحمامات العامة.. وكان يمر بها طريق الحرير التاريخى، واشتهرت "زنوبيا" ملكة تدمر أكثر ملوك الشرق قوة وثراء، والمدافن الملكية غاية فى الفن والبراعة وكانت تزين بالورود وأعدت مصاطب للجلوس فى رحابها، وكان يطلق عليها "منازل الأبدية"!.. وكانت تدمر واحة غناء تنتشر فيها بساتين الفاكهة تحيطها أشجار النخيل، وكان أكثر أهلها – خلال القرن العشرين – يعملون فى إرشاد السياح وخدمتهم.. كانت مملكة عظيمة نافست روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية فى قديم الزمان، وفى عصرنا الحديث اجتاحتها ودمرتها جحافل الجهل والتخلف والظلام. لؤلؤة الصحراء ساحة فتنة لأربع نساء كان النموذج الكامل للرحلة فى أدبيات الغرب، هو ماعرف ب " الحج إلى الصحراء Pelerinage a Desert " فقد كان الأدباء والرحالة الفرنسيون بصفة خاصة يعدون زيارة الصحراء "فضاء أدبيا وجماليا" فأبدعوا فصولا رائعة فى وصف الصحراء العربية وفى وصف البدوى وحياة البادية. الملكة أو جنية الصحراء! فى ربيع عام 1813 التقت "إيستر ستانهوب" محمد على باشا الذى أهداها فرسا عربية أصيلة، وانتقلت من شواطئ مصر وسيناء إلى فلسطين ولبنان، حتى وصلت إلى بلدة "دير القمر" ثم قررت الرحيل إلى سوريا، وتجولت فى ربوع دمشق قبل أن ترحل إلى حماه، كانت قد اعتادت لغة البدو وملابسهم وتقاليدهم، بالإضافة إلى حبها للمغامرة وطبيعتها الجسور.. وقد قررت أن تحقق حلمها برؤية تدمر أو "لؤلؤة الصحراء" كما اشتهرت تاريخيا.. فرحلت إليها برفقة الشيخ ناصر بن مهنا أحد أمراء البادية ومعها د. ماريون وخادمتها مسز فراى وخمسة وعشرين فارسا، واثنان وعشرون جملا تحمل خيام الشعر والأمتعة والحطب والأرز والطحين والتبغ والبن والصابون وحدوات الخيل.. وصلت إلى تدمر بعد خمسة أيام، وأقاموا لها "خيمة الشعر" أو "الخيمة السوداء" كما أسماها الرحالة الأوروبيون، تحيط بها عدة قبائل عربية، التى توجتها "ملكة على تدمر" تحت قوس النصر ولعب أمامها فرسان تدمر لعبة الغزو والجريد بين طلقات الرصاص وزغاريد النساء، ثم مضت فى طريق الأعمدة إلى معبد بل تحيط بها بنات تدمر يحملن باقات الزهور ويرقصن الدبكة.. واتفق شيوخ القبائل على أن كل أوروبى يسمح له بزيارة تدمر، لا بد له أن يحصل على "تصريح" من الملكة مقابل ألف قرش عثمانى.. وداومت على زيارة آثار تدمر ودراستها. وأثبتت المصادر التاريخية أن "البتراء" كانت مركزا مهما للتجارة والرخاء منذ أواخر القرن الأول الميلادى إلى أن بدأت فى الانحدار مع صعود نجم "تدمر" التى أصبحت مركز التجارة الأول فى المنطقة والطريق الرئيسى للقوافل.. وكتبت ستانهوب فى مذكراتها: سمات المكان لن تعجز عن التأثير فى أعماقك، فالبتراء شعلة وردية فى صحراء من الصخور، أما تدمر فحجارة ذهبية وسط حقول خضراء، بالإضافة إلى الجمال الهادئ الذى تتمتع به.. وكتبت أيضا "ها هى تدمر .. بقايا المجد القديم والأعمدة الشامخة، عرض رائع للأعمدة الكورنثية التى تكاد تتطابق مع مثيلاتها فى المدن الإغريقية – الرومانية ".. ووصفت جلسات السمر فى ضوء القمر .. وتمنت "لو يراها قومها فى لندن وهى تتوج ملكة على تدمر"! عاشت استانهوب تنعم برفاهية الشرق، يحيط بها حاشية من العرب، فى أجواء من العلاقات الودية والسياسية مع السلطان العثمانى وأمراء الدولة وكبار شيوخ الصحراء فى الشام والعراق.. هكذا عاشت الليدى ستانهوب "حلما أو وهما" أن تحكم إمبراطورية شرقية عاصمتها "تدمر"!.. والتى كانت تردد عنها دائما "ليس فى بادية سوريا سوى تدمر واحدة، كما أن السماء ليس فيها سوى شمس واحدة"! عصفورة الصحراء الليدى "جين دجبى" صاحبة أشهر صالون أدبى فى باريس فى الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، ارتاده أعظم الأدباء: فيكتور هيجو، الفريد دى موسييه، شوبان، جوته، بلزاك والذى لقبهما ب "عصفورة الصحراء" وكان يقول لها دائما " كأنك يا صديقتى تنتمين إلى الشرق "!.. ولبت الليدى دجبى نداء الشرق، وبدأت رحلتها من بيروت واخترقت قافلتها بادية الشام فى طريقها إلى تدمر، وكان قائد القافلة الشيخ مجول المصرب شيخ عشيرة "السبعة" التى كانت تسيطر على الطريق من حمص ودمشق إلى تدمر، وتتكفل بحماية المغامرين والرحالة الأجانب.. ووصف بعضهم الشيخ مجول بأنه " كان فارسا بدويا رشيقا وسيما نبيل الشمائل، يتحدث الفرنسية والتركية ويعرف البادية وآثارها كالنسر المحلق ويبرع بالحديث". وفى الطريق إلى البادية، كانت الليدى والشيخ مجول يتقدمان القافلة ويلهوان بالطراد والقنص، ويقص عليها حكايات البدو والبادية وعجائب الآثار، ونمت بينهما مشاعر الإعجاب الذى تحول إلى حب جارف.. وطلبت الزواج به فرفض فى البداية، وبعد مشاورات ومداخلات قبل الاقتران بها بشرط أن تعيش حياة البادية بكاملها، وتزوجته على طريقة البدو أمام شيوخ العشيرة، وزفت إليه فى مراسم عرس بدوية بين الأهازج وعروض الفرسان، عاشت خمس عشرة سنة فى البادية مطيعة لزوجها "تغسل له قدميه، وتحلب النوق وتعتنى بالخيل وتكنس خيمة الشعر وتداوى المرضى".. وكانت العشيرة بأجمعها وبدو الصحراء عامة: يحبونها ويقدرونها واشتهرت بينهم بلقب "أم اللبن" لشدة بياض بشرتها. وبعد موافقة الشيخ، شيدت دارا فى حى "مسجد الأقصاب" بدمشق، كانت أشبه بالقصر، وتحدثت المصادر عن سيرتها المتألقة فى دمشق، حيث كان يجتمع بقصرها الأمراء ورجالات دمشق وشيوخ القبائل والقناصل. ودونت "عصفورة الصحراء" انطباعاتها فى تدمر، فكتبت: "ممرات عظيمة تحف بها الأعمدة الرومانية الكورنثية البالغة العظمة، رؤوس بعضها مهشم وبعضها الآخر مزخرف بتيجان.. ترنو إلى السماء فى شموخ وتمرد عنيد ضد أهوال الزمن.. وتدرجات غير منتظمة من الحجر وكتل جرانيتية ضخمة، أبنية بالغة القدم وبوابة حجرية ( قوس النصر ) وتلال جميلة مكسوة بشجيرات خضراء، وواحة تزدان ببعض أشجار النخيل والتين والمشمش والشعير الأخضر تحيط بها صحراء تمتد بلا حدود، تتناثر فيها بعض الشجيرات والنباتات البرية.. بإمكان أى إنسان أن يضجع على الأرض اليابسة النظيفة أو الرمال الناعمة المتوهجة بضوء الشمس.. فى هذه البقعة من العالم: سلام من نوع خاص.. وعظمة المشهد لا يمكن أن تمحى من الذاكرة"! الحالمة بتاريخ زنوبيا الليدى إيزابيل بيرتون قرينة العالم والدبلوماسى والرحالة البريطانى الأشهر ريتشارد بيرتون، فى الفترة 1869 – 1871 التى عمل فيها زوجها قنصلا لبريطانيا فى دمشق، كان صالونها مقصدا لولاه، الشام وشيوخ القبائل والأدباء والمثقفين والرحالة .. كانت "تدمر" محور اهتمامها وأحاديثها، قررت الرحيل إليها، انطلقت قافلتها إلى دوما بضواحى دمشق ومنها إلى سهل قطيفة، ثم إلى منطقة جيرود، وغيرها من المدن والمناطق التى تتداولها وسائل الإعلام اليوم، استمرت الرحلة ثمانية أيام حتى بدت لها آثار تدمر، كانت إيزابيل حالمة بسحر الشرق وتاريخ الملكة زنوبيا "رمز الشجاعة لكل امرأة فى العالم".. وكتبت فى مذكراتها:"بدت أعمدة تدمر أشبه بكوكبة من الفرسان تسير على نسق واحد فى منظر مدهش، قد تبدو من بعيد مخيبة للأمل ثم شيئا فشيئا تسمو وتتألق بنور الشمس، الأطلال راسخة عملاقة متفردة فى كبريائها، جميلة، رائعة، كأن الجن الذى شيدها لسيلمان النبى لا يزال يعيش فيها"!!.. وصعدت إلى قمة أحد الجبال المطلة على المدينة، حيث قلعة ابن معن التى تشرف على أطلال فى سهل فسيح نحو الشرق تحيط بها بساتين النخيل.. ثم هبطت عند المساء ورغبت أن تتجول وحدها بين المعابد وأروقة المعابد فى ضوء القمر، فهذا المكان بالنسبة إليها هو "الأنسب للتأمل واستحضار التاريخ وعظمة تدمر فى عهد الملكة زنوبيا"! الليدى.. عاشقة البادية الرحالة والأديبة البريطانية الليدى "أن بلنت" حفيدة الشاعر اللورد "بيرون" تميزت بشخصية جذابة وهى سليلة عائلة نبيلة توارثت العلم والأدب، ومؤلفاتها عن بلاد الرافدين ونجد والقبائل العربية تمثل إضافة متميزة فى أدب الرحلة. عشقت "أن بلنت" الصحراء واعتبرت أن "الحرية لا تتمثل إلا فى البادية دون العالم كله"!.. قررت وزوجها العالم والمستشرق "ويلفرد بلنت" القيام برحلة إلى بلاد نجد، فى السابع من ديسمبر عام 1878 قضت نهار ذلك اليوم بصحبة الليدى "دجبى" وزوجها مجول المصرب الذى كتبت عنه "هو رجل راق مهذب، أعطانا الكثير من النصائح المهمة حول رحلتنا".. قاد صديقهما البدوى التدمرى محمد عبدالله العروق رحلتهما من دمشق إلى "حائل" بشمال جزيرة العرب. قررت الليدى بلنت أن تمكث عدة أيام فى مدينة تدمر، وكتبت "ها نحن فى الصحراء.. صحرائنا.. هنا نشعر بالألفة التى لا نجدها فى المدن".. وصفت معبد "بل" وقوس النصر والأعمدة الأثرية، بالقرب منها لم يبرح خيالها مشهد صفوف المصلين فى صلاة العشاء "جمعتهم أخوة الإسلام من الطبيب الذى ارتدى معطفا من الفراء إلى راعى الإبل فى ثيابه البالية وصدى اسم الله يتردد عبر الأروقة المعمدة وتتوحد الحركات فى صمت وخشوع"! نزلت الليدى ورفاقها فى دار تضم ثلاث أسر، كان الرجال غائبين عنها، بعضهم يعملون حمالين فى الأسواق والبعض الآخر رعاة لقطعان من الخراف والماعز، وكتبت:"استقبلتنا نساء الدار بالترحاب ودعوننا للجلوس وتناول القهوة – قهوة ممتازة لم نذق مثلها – وبعثن بطفلة من بناتهن لجلب الإبل من الخارج كى تنظر إليها، فقامت الطفلة بهذه المهمة ببراعة لا تقل عن أمهر رجل" وأشادت الليدى بالكرم العربى فى أكثر صورة بساطة وشاعرية وأضافت: "عادت الطفلة لتجلس على البساط، كانت تنظر إلينا فى فضول، بينما يكتسى خداها بحمرة طبيعية مع ابتسامة جميلة ثم ترفع عينيها الزرقاوين لتعبر عن دهشتها الساذجة من هؤلاء الغرباء"!.. ووصف الليدى بلنت جلسات السمر فى ضوء القمر الساحر "وقد انتظم البدو فى دوائر تلقائية، أشعلوا النار لإعداد القهوة المرة مع قليل من التمر" أفادتها ثقافتها الموسوعية عن أنساب الخيل وأنساب القبائل وبطونها وفروعها، والأساطير العربية والأدب العربى – وهى التى ترجمت المعلقات إلى الإنجليزية – فى هذه السهرات القمرية وعلى حد تعبيرها "وسط مشاهد شرقية فى واحة فريدة رومانسية يعلق سحرها بالنفس كما يعلق بالنخيل والآثار والذكريات».