الحكم الرشيد وتعزيز الدول الوطنية الحديثة الوصفة السحرية للاستقرار قال أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية إن السياسات الإيرانية لم تخلق الفجوة بين السنة والشيعة، فالخلافات العقائدية طالما كانت قائمة داخل الدين الإسلامي لكنها استغلت هذه الخلافات وفاقمتها بهدف الدفع بمصالحها الخاصة ومن أجل تعزيز طموحاتها في الهيمنة. جاء ذلك فى المداخلة التى ألقاها يوم الإثنين الماضى أمام مؤتمر الأمن بميونيخ بألمانيا ووزعتها الأمانة العامة للجامعة بعد ترجمتها إلى اللغة الغربية بعنوان «هل يُمكن تطبيق معاهدة وستفاليا في الشرق الأوسط» (التي أنهت حرب الثلاثين عاماً بين البروتستانت والكاثوليك عام 1648). ولفت أبو الغيط النظر إلى أن الحروب داخل الدين الواحد ربما تكون الأكثر دموية وبشاعة، ذلك لأنها غالباً ما تمتزج بأجندات سياسية لكنه نبه إلى أن المسائل العقدية والإيمانية لا تُمثِل بأي حالٍ جوهر الخلاف، بل السياسة والسعي للنفوذ هما ما يُشكلان السياق الذي تتحول فيه مسائل العقيدة إلى قنابل موقوتة. وأضاف: إذا كانت إيران تظن أنها ممثلة للشيعة في كل مكان، فإن ذلك يعني أننا نعيش في عالم سابق على وستفاليا حيث تتشكل الولاءات وفقاً للانتماءات الطائفية والدينية، بدلاً من تلك الوطنية والعلمانية. وكما نشهد اليوم في سوريا والعراق واليمن، فإن العالم الذي تحكمه هذه المبادئ هو عالم قبيح يقتل فيه الناس بعضهم بعضا على الهوية والإيمان الديني. وعندما يواجَه الناس بمثل هذه التهديدات، فإنهم غالباً ما يرتدون إلى هوياتهم الأولية، كما يسقطون فريسة سهلة لأكثر الخطابات تطرفاً وشراً، وهذا بالتحديد هو ما أفرز لنا داعش وغيرها من المنظمات الإرهابية. وقال أبو الغيط فى مداخلته الى أنه أطلع على بعض الأفكار لترتيبات جديدة في منطقة الشرق الأوسط، كتلك التي تتعلق ب «السيادة المُقيدة»، أو ب«الضامنين الخارجيين»، معربا عن يقينه من أن أياً من هذه الأطروحات لا يُمكن أن يحوز القبول لدى الشعوب والحكومات في العالم العربي، مشيرا فى هذا السياق ذكريات الحِقبة الاستعمارية التى لم تُمحَ كُلياً، وأن طرح مثل هذه الأفكار لن يكون من شأنه سوى استحضار تجارب تاريخية سابقة عن المواجهة الطويلة بين العالمين الإسلامي والمسيحي وقال إنه بدلاً من أن تُقدم هذه الأفكار حلولاً، فإنها قد تستفز مشاعر الرفض لدى الشعوب العربية التي تعتز باستقلالها وسيادتها. وأكد الأمين العام للجامعة العربية أن المنطقة ليست بحاجةٍ إلى مبادئ جديدة أو حدود جديدة والمشكلات الحالية – باستثناء القضية الفلسطينية التي تتوافر لها عناصر مختلفة ولم يعد من المقبول دولياً استمرارها دون حلٍ عادل - ليس لها صلة كبيرة بالأرض والحدود. منبها إلى أن المنطقة في حاجة إلى إعادة ترسيخ واحدٍ من أقدم المبادئ في النظام الدولي المعاصر، ألا وهو السيادة وعدم التدخل في الشئون الداخلية وهو ما يشكل بالتحديد جوهر وستفاليا وإن كان يلفت النظر إلى أن بعض الدول العربية أساءت استخدام مبدأ السيادة ووظته كذريعة لاضطهاد الأقليات الإثنية أو الدينية ولا يصح أن يكون هناك مجالٌ لمثل هذه الممارسات في المستقبل. وأكد أبو الغيط أن الحكم الرشيد يُشكِل الوصفة المناسبة للاستقرار وأن الغاية المنشودة ينبغي أن تتمثل في تعزيز الدول الوطنية الحديثة التي تحترم حقوق الإنسان وحكم القانون لكنه أشار إلى أن إنجاز أيٍ من هذه الأمور لن يكون ممكناً ما لم يتم احترام المبادئ الأساسية بعدم التدخل وضمان التعددية الدينية من جانب جميع اللاعبين الإقليميين والدوليين. وقال إن ما نحتاجه اليوم ليس نظاماً جديداً بشكلٍ كامل. ربما ما نحتاجه حقاً هو العودة إلى ذات المبادئ التي تأسس عليها نظام وستفاليا، وهي بالتحديد: الاعتراف المتبادل بالسيادة المتكافئة بين الدول، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، والفصل بين الدولة والدين. وبعبارة أخرى، فإننا لسنا في حاجة إلى «عملية وستفالية»، وإنما نحتاج إلى إعادة ترسيخ مبادئ وستفاليا وفرض الإقرار بها. وأشار إلى أنه تمت صياغة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط وفقاً لمبادئ وستفاليا منذ أكثر من مائة عامٍ خلت، حيث جرى إنشاء دول وطنية، ورسم حدود، وظهرت إلى حيز الوجود كيانات سياسية معاصرة وهو ما تم فُرضه على المنطقة بواسطة القوى الاستعمارية، ولم يكن بأي حالٍ نظاماً مثالياً موضحا أنه على الرغم من كل ما اعتراه من عيوبٍ وثغرات، فقد استمر لما يقرب من مائة عام، حيث ترسخت هويات وطنية جديدة وتعزز وجودها بمرور الوقت منبها أهمية هذا «الإنجاز»، فى ضوء أن هناك نظماً أخرى تهاوت على نحو كامل كالنظام الذي كان سائداً في البلقان على سبيل المثال. وتساءل أبو الغيط :لماذا استمر النظام القائم في الشرق الأوسط طوال هذه الفترة؟ ثم أجاب قائلا: في ظني أن السر يكمن في الالتزام بمبادئ وستفاليا «السحرية»، ألا وهي السيادة وعدم التدخل في الشئون الداخلية. إننا عادة ما نعتبر هذه المبادئ أمراً مفروغاً منه، ونتناسى مدى أهميتها لاستقرار النظم الإقليمية، ولا نُقر بأهمية هذه المبادئ فقط في حالة خرقها! وتابع قائلا: ليس معنى ما سبق أن هذا النظام الإقليمي لم يتعرض لتحديات، فقد جرى توظيف القومية العربية من جانب بعض البلدان في عقودٍ سابقة من أجل تبرير مساعيها للسيطرة. وقد كان التحالف الدولي ضد صدام حسين في 1991، والذي ضم الدول العربية الرئيسية، مثالاً كلاسيكياً لاستعادة النظام والدفاع عن مبدأ أساسي من مبادئ وستفاليا وهو السيادة المتكافئة، حتى لأصغر الدول، مشيرا إلى أن «النظام الوستفالي» في الشرق الأوسط لم يعمل بصورة مثالية بسبب استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية لافتا النظر إلى أن إحدى نتائج وستفاليا في أوروبا تمثلت في البزوغ التدريجي لمبدأ حق تقرير المصير كصيغة مقبولة لتأسيس الدول، ولكن بالنظر للشرق الأوسط، فإن معاناة الفلسطينيين، والفشل في تلبية طموحاتهم المشروعة بإقامة دولة مستقلة لهم، ظلت لوقت طويل مصدراً للغضب والتوتر، ليس فقط في فلسطين ولكن بطول العالم العربي كله.