تواصلت المظاهرات التى اندلعت فى الخرطوم منذ السادس عشر من الشهر الحالى احتجاجا على ارتفاع أسعار السلع ورفع الدعم عن المحروقات، ليسلط الضوء على معاناة السودانيين، وقد وصلت ذروة هذه الاحتجاجات الجمعة الماضية، وكانت تحت شعار «لحس الكوع» وهى العبارة التى طالما أطلقتها قيادات النظام فى تحدى المعارضة، وقبلها كانت جمعة «كتاحة الغضب»أى العاصفة الترابية، وقد اتسعت هذه المظاهرات لتضم مواطنين آخرين إلى جانب طلبة الجامعات الذين أشعلوها، وانتقلت إلى أنحاء وولايات السودان الأخرى، لتخترق حاجز الخوف والصمت ولتهز كثيرا من الثوابت والركود فى المشهد السياسى السودانى، الذى قسم المعادلة بين حزب حاكم يستقوى بنفوذه ولا يأبه بغيره وتتحدى قياداته المعارضة المرة تلو الأخرى أن تنزل إلى الشارع أو أن تكون لها القدرة على نزع السلطة منه، وبين أحزاب معارضة مترهلة قدرتها على الفعل والتأثير أصبحت محدودة، وحركات مسلحة بأطراف البلاد شرقا وغربا وجنوبا. السؤال الذى يفرض نفسه ما مصير هذا الحراك الجماهيرى العفوى الذى انفجر بعد أن طفح كيل المواطنين السودانيين؟ وإلى أين يسير؟ هل يتم وأده فى مهده وهو الذى مازال تحركا ناشئا غضا، أم تكتب له الديمومة والبقاء وأنصاره يرون أنه لايعبر فقط عن رفض آثار السياسات الاقتصادية التى عانى منها السودانيون منها معاناة مريرة؟ وإنما يعبر أيضا عن رفض ما لمجمل سياسات النظام التى أدت لانفصال الجنوب، وإلى حروب متعددة فى أنحاء السودان، فى دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، والتى تهدد بمزيد من التمزق والتشرذم، وقد رفع المتظاهرون والمحتجون شعار «الشعب يريد إسقاط النظام«، مستلهما نموذج ثورات الربيع العربى، ومستلهما أيضا مخزونا ثوريا كبيرا من تراث السودان الذى كان سابقا على منطقته العربية وقارته الإفريقية، وشهد مولد أول انتفاضتين عرفهما محيطه فى أكتوبر عام 1964، وإبريل عام 1985، واللتين أطاحتا بالرئيسين الأسبقين إبراهيم عبود وجعفر نميرى، وإن كان الواقع اليوم فى السودان مختلفا عن الظروف فى الانتفاضتين السابقتين، فليس للأحزاب والنقابات نفس القوة فى تلك الأيام، وانتقلت القوة العسكرية للحركات المسلحة فى أطراف السودان. وقد قابلت أجهزة الأمن السودانية هذه المظاهرات والاحتجاجات بعنف وبطش شديدين, والأغلبية فى السودان على ما يبدو تؤمن بحتمية التغيير لإزالة وتعديل الأوضاع الحالية التى يعتبرونها مهترئة, وخصوصاً بعد فقدان 75% من دخل البترول والعملة الصعبة بعد ذهاب الجنوب، وانخفاض سعر الجنيه السودانى وبلوغ نسبة التضخم 48%، فإن غالبية السودانيين الراغبين فى التغيير يختلفون حول الأسلوب، فمنهم من يراهنون على التغيير من داخل السلطة أو الحركة الإسلامية التى ينتمى إليها الحاكمون، ومن هؤلاء من يراهن على انقلاب قصر داخل المجموعة الحاكمة، وآخرين يراهنون على إصلاحات داخل الحكم، وقد شهدت الساحة الإسلامية فى السودان أخيرا تقديم حوالى 5 مذكرات من إسلاميين لإصلاح السلطة، وقد تفاوتت هذه المذكرات فى لهجتها مابين التشدد واللين، مابين إجراءات سهلة تطالب بها، وما بين تغييرات راديكالية يراها البعض أمست ضرورة ملحة، وأيا كانت الاختلافات بين هذه المذكرات فإنها لا شك تعكس اضطرابا واضحا ومخاوف حقيقية ورغبة فى إنقاذ سفينة الحكم الإسلامى أو السودان، الذى يتعرض اليوم لابتلاءات غير مسبوقة. وخارج السلطة والحركة الإسلامية يوجد فى السودان كثير من الراغبين فى التغيير، ولكنهم يخشون من تغيير يهب من الأطراف مع حركات التمرد الأربع التى توحدت قبل أشهر فيما يسمى تحالف كاودا أو الجبهة الثورية تحت هدف إسقاط نظام البشير، ويخشى البعض أن يكون مثل هذا التغيير المقبل من الأطراف معبئا بعنصرية ما ضد المركز والشمال، أو أن يكون عنيفا يسقط الدولة ويسلمها للفوضى فى ظل انتشار كثيف للسلاح والضغائن. وقد كسرت هذه الاحتجاجات الطلابية والشبابية فى الخرطوم وبطول البلد وعرضها حاجز الخوف من التنظيمات الأمنية العديدة العتيدة التابعة للدولة السودانية, ويبدو أن هذه الاحتجاجات هى أجراس إنذار غير مبكرة أو رسائل تحذير عاجلة، وأن على من يعنيهم الأمر فى السودان الإنصات لها جيد وعدم التقليل من شأنها، كما فعل سابقوهم فى دول عربية ليست بعيدة عن السودان. ويأتى ذلك فى وقت اتفقت أحزاب المعارضة السودانية على إسقاط النظام الحالى وعلى هياكل الفترة الانتقالية التى تعقب ذلك، وقال الدكتور بشير آدم رحمة مسئول العلاقات الخارجية فى حزب المؤتمر الشعبى المعارض إن الثورة لن تقف فى السودان، وأحزاب المعارضة اتفقت على الخطوط العريضة لفترة انتقالية تعقب سقوط النظام الحالى ومدتها عامان. وحول وسيلة إسقاط النظام قال رحمة: إن النظام الحالى إذا واصل إنكاره لوجود المشكلات ولم يتجاوب مع الاحتجاجات وواصل تصريحاته وأحاديثه غير المسئولة سيقتلع كما اقتلعت كل الأنظمة الديكتاتورية فى المنطقة التى سبقته، وقال: إن المعارضة السودانية ترفض أن يكون التغيير عسكريا بالقوة، وتأمل أن يكون عن طريق ثورته السلمية التى انطلقت منتصف الشهر الحالى، وقال: إن هذه الثورة لن تعزل أو تستثنى أحدا، وطالب القوات المسلحة وقوات الأمن السودانية بالانحياز إلى شعبهم وعدم التورط فى مجازر ضده، وقال: قسوة القمع لن تزيد المقاومة إلا قوة. ومن جانبه دعا السيد مبارك الفاضل المهدى القيادى البارز بحزب الأمة شباب التغيير فى السودان للتماسك وعدم الاستجابة لمحاولات التخويف. وقال: إن النظام ضعيف مثل نمر من ورق برغم ادعاءات ومظاهر القوة التى يستعرضها النظام، فأركانه منقسمة على نفسها وتتربص ببعضها البعض، وكما قال وزير المالية النظام مفلس ولا يستطيع تحمل حتى أعباء الطوارئ لقواته، وبإصراركم ومقاومتكم وصبركم سترون كيف تنهار هذه الدعاوى. ولا يمكن بعد التنبؤ بمصير هذه الاحتجاجات، التى من المؤكد أنها أحدثت ارتباكا شديدا وهزة عميقة فى المشهد السودانى كله، داخل الحزب الحاكم وفى صفوف المعارضة السودانية بشقيها السياسى والمسلح، وليس معلوما بعد أن كان نظام الحكم فى السودان سيواصل إنكاره وتناقضه وارتباكه ووحشيته إزاء هذا التحركات الجماهيرية التى تعبر عن مطالب عادلة حتى يقضى عليها، وهو الذى يحكم سيطرته منذ 23 عاما على كل مفاصل السلطة والحياة فى السودان ويخترق بشكل كبير جميع الأحزاب والقوى السودانية وحتى الحركات المسلحة أو الشبابية، كما أن القضية بالنسبة له هى قضية حياة أو موت بشكل أكبر من كل الأنظمة العربية التى سقطت أخيرا بفعل تداخل عوامل إضافية تتفاعل معا داخلية وخارجية أبرزها قضية المحكمة الجنائية الدولية التى تطالب باعتقال الرئيس السودانى عمر البشير وقيادات فى حزبه، وقد خرج البشير أخيرا لا ليهدئ من ثورة المحتجين، بل ليصفهم بأنهم شذاذ آفاق تم تحريضهم، ولتعلن حكومته أنه لارجعة عن رفع الدعم. أم يستجيب البشير وحزبه لهذه الاحتجاجات، ويسعى إلى حل وتغيير حقيقى، وقد سعى بالفعل إلى تطبيق سياسة التقشف على حكومته وأجهزة الدولة، لكن حتى هذه الخطوات لا تجد استجابة فى الشارع السودانى، وكثيرون يعتبرونها أتت بعد فوات الأوان، والبعض يطالب بإصلاح وتغيير جذرى، بينما يرى آخرون أنه لا حل إلا بذهاب النظام برمته وتسليم الحكم للقوات المسلحة أو لحكومة انتقالية، بعد أن مزق الحكم الحالى وحدة البلد ويهدد بتمزيق مابقى منها حال استمراره واستمرار سياساتها كماهى، أما السيناريو الثالث وهو الأصعب فيتمثل فى إمكانية دخول الحركات المسلحة الموجودة بأطراف السودان على خط الأزمة، والتواصل مع هذه الاحتجاجات السلمية، ليعطى ذلك للحكومة مبررا لقمعها بشكل أكبر، أو لينقلب التظاهر والاحتجاج السلمى إلى حرب أهلية، يؤججها السلاح الموجود بكثرة فى أيدى السودانيين، وأيضا الأحقاد والضغائن والغبن المتراكم أيضا فى النفوس، وهو ما يعنى أن يتحول الربيع إلى خريف، وأن يطول أمد المعاناة فى بلد عانى طويلا من ويلات الحرب والدمار.