اعتقد ان د. لويس عوض هو من قال ذات مرة إننا نقرأ الكتب لننساها, ولهذا توجد المكتبات وكتاب المجتمع المصري والجيش للكاتب الكبير د. أنور عبدالملك هو واحد من الكتب التي يمكن ان تقرأ لتنسي. لكنه سيظل دائما له سحره الخاص, لانك قد تنسي تفصيلات كثيرة أو قليلة, وقد يغيب مع الزمن حتي الكثير من المقولات التحليلية التي يذخر بها هذا الكتاب, ولكن ستظل رائحة وملمس التحليل إذا جاز التعبير لاتفارقك ابدا, كما لن تفارقك طزاجة ما يحتويه من أفكار, فلهذا الكتاب قدرته المعجزة علي إلهامك في كل مرة تعود لقراءته بالقدرة علي توليد افكار جديدة لتجلية غموض تاريخ فترة من أهم فترات التاريخ المصري الحديث, وربما تكون الميزة الكبري لهذا الكتاب هو ما ميز افكاره من جدة وجسارة وآنية التحليل, فمعظم اجزاء الكتاب طبعته الأولي وضعت خلال ثلاثة اشهر من صيف عام1962 لتحلل السنوات العشر الأول من عمر ثورة يوليو, فهو بحث مكثف في الاساس الاجتماعي/ الاقتصادي وبحث في الابنية الفكرية والسياسية لها, وستدهشك القدرة المعجزة للكاتب علي ان يستخلص الكثير من الصحف والمجلات والكتب والوثائق والدراسات القليلة التي صدرت باللغات العربية والانجليزية والفرنسية خلال تلك الفترة, والسر وراء كل هذا عوضا عن امكانات الكاتب هي الدوافع لكاتب مهموم وملتزم مناضل ان شئت الاختصار بقضايا شعبه ونهضة وطنه, ومع ذلك ملتزم ايضا بمنهج علمي واضح, فالكتاب الذي كتب من وجهة نظر معارضة معارضة وليست هجائية لثورة يوليو اعد ونشر وقت لم تكن الكتابة المعارضة مجانية, بل كان يدفع كتابها ثمنها من لحمهم ودمهم واحيانا من حياتهم بالمعني الحرفي لهذه الكلمات, الكتاب هو محاولة في رؤية خصوصية مصر في تطورها الحضاري الممتد من قبل أبنائها وليس وفقا لنظرة استشراقية تحاول ان تنظر للشرق ضمن نظرة مؤدلجة سابقة التجهيز. محاولة الامساك باللحظة اذا وحرارة التفاعل مع الحدث بعد وقوعه بقليل هو ما يميز كتاب المجتمع المصري والجيش عن غيره من الكتب التي صدرت لتحليل هذه الفترة من التاريخ المصري, حتي تلك الكتب التي صدرت بعد صدوره بكثير مستفيدة من توافر كم أكبر من الوثائق والبيانات والمعلومات, والكاتب بعد ان يستعرض تاريخ مصر الاجتماعي/ الاقتصادي الحديث في فصلين بعنوان المجتمع المصري قبل الانقلاب والطبيعة الاجتماعية للنظام العسكري لنخلص إلي عجز البورجوازية المصرية عن تحقيق المهمة المزدوجة المطروحة امام الثورة الوطنية وهما الاستقلال ثم ما هو أهم اي تحديث الاقتصاد والمجتمع بواسطة الاحزاب التقليدية.. لم تكن هناك سوي قوة واحدة خرجت نقية الصفحة من أوحال حرب فلسطين وحريق القاهرة هي الجيش.. غير ان الكثير من الغموض وعدم التحديد كانا واضحين في التعريف بالخط السياسي العام في كل من العلاقات الداخلية والخارجية بعد استيلاء الضباط علي السلطة, وهو ما كان يعزي اما إلي عدم التجربة السياسية لدي القيادة الجديدة أو إلي ميكيافيلتها وكان كلا العنصرين موجودين, ففي البداية لم يكن ثمة برنامج مفصل ولا رؤية نظرية لما ستكون عليه مصر المستقبل, لكن المجتمع المصري تحت وطأة الحاجة الملحة لان يصبح عصريا, فعالا ونشيطا, اي ليصنع نفسه وهو مستقل اعطي معني وترابطا لمبادرات طبعت بطابع التجريبية, يلونها الحذر دائما أو المغامرة احيانا, ويمضي الكاتب عبر فصول الكتاب في تقديم البرهان تلو الآخر علي ذلك, فبخلاف الهدف الواضح بالاجهاز علي نفوذ كبار ملاك الاراضي سياسيا واجتماعيا عبر الاصلاح الزراعي والسيطرة, من ثم علي سلطة القرار, فانهم راحوا يجربون من فتح المجال امام رأس المال الخاص وحتي رأس المال الأجنبي من أجل انجاز تصنيع مصر, ثم معركة تأميم القناة وما اعقبها من تأميم المصالح الاجنبية للدول الاستعمارية, ثم اخيرا لما تبين تردد وعجز رأس المال الخاص علي الانتظام في صفوف نظام يوليو ومساعدته علي تحقيق بعض أهدافه كان اللجوء إلي قرارات التأميم في الاعوام1961 1963, هذا الطابع التجريبي ذاته سيلون السياسة الخارجية بدءا من الحياد الايجابي وعدم الانحياز إلي سياسة النظام العربية وتجربة الوحدة المصرية السورية1958 1961 دوهو ما كان يتم في اتصال وثيق مع مهمات الداخل ومع هذا فإن الضباط الاحرار لم ينظروا فقط إلي الحاضر والمستقبل بل انهم عمدوا إلي الاستيلاء علي كل ما كان ايجابيا في التجربة التاريخية المصرية لابرازه علي انه من صنعهم الخاص الذي لايدين بشيء إلي الماضي! وقد فرض عليهم ذلك تقطيع أوصال التاريخ المصري الكبير لتكبير حلقات المرحلة التي ارادوا الاحتفاظ بها, فقللوا من قيمة مصر الفرعونية ومصر القبطية ومصر الليبرالية الحديثة من بونابرت حتي مصطفي النحاس, ووحدها ابرزت مصر الإسلامية من الفتح العربي إلي نهاية القرن الثامن عشر, وفترة ثورة عرابي العابرة ومصر العسكرية منذ23 يوليو, وهكذا اعطت هذه العملية النظام القائم امجادا علي مستوي العالم الإسلامي والعربية, وسمحت برفض كل قيمة للتيارات الديمقراطية, وجعلت من الشعب مجرد متفرج سلبي علي عمل القمة, كان تشويه تاريخ مصر علي هذا النحو يفترض معاملة الشعب معاملة القاصر, ووضعه تحت الوصاية, وهذه النظرة في التعامل مع التاريخ هي في الحقيقة ما يقتضي العودة لقراءة هذا الكتاب من قبل اجيال مصر الشابة, لانه مازال يصدق عليها ما قاله الكاتب منذ مايقرب من اربعين سنة ان جيلا جديدا يولد في ارض مصر, وطننا الذي لايمكن نسيانه, وهذه الدراسة موجهة إليه أولا: يجب الانخطيء, يجب ألا ننسي, يجب ألا يبقي التاريخ لعنة عندما يمكن ان يكون املا.. فمع ان الحقيقة يمكن ان تكون مرة.. الحقيقة التي يمكن ان تؤلم, ولكنها تبقي الطريق الوحيد إلي العقلانية, الطريق الوحيد الذي يستطيع ان يقود شعب مصر لتحقيق امنية رفاعة الطهطاوي: فليكن الوطن مكانا لسعادتنا العامة التي سنبنيها من خلال الحرية والفكر والمصنع. صدر الكتاب في طبعة جديدة عن دار المحروسة