كان صفوة من الأدباء والمثقفين وكتاب الروايات البوليسية يحتشدون في قاعة بأحد الفنادق البريطانية في أكتوبر2008 للاحتفال بفوز كاتب سويدي بجائزة أدبية رفيعة عن روايته البوليسية فائقة الروعة والحبكة الفتاة ذات وشم التنين. وتقافز في قاعة الاحتفالات سؤال: لماذا تأخر الفائز بالجائزة ستيج لارسون؟ انه لم يحضر بعد لالتقاط صور تذكارية. ولم يكن ممكنا ان يحضر لارسون, لأنه مات منذ نحو أربع سنوات, بينما كان في الخمسين من عمره, والمثير للدهشة أن معظم المحتفلين لم يكن لديهم علم بنبأ موته, وانه قضي نحبه بسكتة قلبية قبل نشر روايته حتي في بلده السويد. ولم يدرك بالطبع انها فور صدورها حققت أعلي مبيعات, وصارت ظاهرة ثقافية عالمية, فقد تم طباعة اكثر من خمسين مليون نسخة من هذه الرواية, وكذا من شقيقتيها الفتاة التي تلعب بالنار, والفتاة التي ركلت عش الدبابير.. وأطلق النقاد علي هذه الروايات الثلاث اسم ثلاثية الألفية. ومما يتعين الالتفات اليه ان ثلاثية الألفية التي أضحت ظاهرة ثقافية قد تم نشرها مصادفة.. وهذا ما توضحه الناشرة السويدية ايفا جيدن.. فقد اتصل بها تليفونيا صديق للكاتب, وناشدها قراءة روايته, وما ان انتهت من القراءة, حتي قررت نشرها, وعندما التقت مع الكاتب أوحت له بفكرة الثلاثية, فوافق في هدوء, وتقول ايفا انه كان شخصا دمث الخلق ويجنح إلي الهدوء, كما كان خجولا. ومما لاجدال فيه ان ايفا جيدن برغم براعتها في صناعة النشر لم تكن تتوقع ان تحقق الرواية هذا النجاح الباهر والمبهر. وما ان حلقت ثلاثية الألفية في فضاءات عالم الثقافة حتي تطلع القراء بشغف عارم لمعرفة أي معلومات عن حياة مؤلفها, صحيح ان ستيج لارسون كان مشهورا في السويد, وفي دوائر اليسار السياسي الاوروبي باعتباره كاتبا صحفيا مناهضا لجماعات وتنظيمات اليمين المتطرف في السويد, لكن شهرته المدوية كروائي كانت أمرا مفاجئا. السيرة الذاتية ولعل السيرة الذاتية التي كتبها عن لارسون كاتب بريطاني هو باري فورشو قد أضاءت حياة مؤلف ثلاثية الألفية, إلي حد كبير, فقد نشرها تحت عنوان الرجل الذي رحل مبكرا في منتصف عام2010, وهي اكثر شمولا واحاطة بأطوار حياته ومواقفه السياسية من الكتاب الذي اصدرته أخيرا ايضا جبرليسون رفيقة درب لارسون تحت عنوان أشياء أود ان تعرفها عن لارسون وعني. ويفيض ما كتبته ايفا بعاطفة مشبوبة, وتسرد أطيافا من حياتهما معا, غير ان ثمة ملاحظة مهمة استرعت انتباه نقاذ الأدب وهي ان لغتها عادية, وتختلف تمام الاختلاف عن اللغة الأدبية المشرقة والجميلة التي كتب بها لارسون ثلاثيته. وليس القصد من هذه الملاحظة عقد أية مقارنة بين لغة كل من ايفا ولارسون, وانما الهدف من أبرازها يستهدف دحض التكهنات التي سرت في دروب الثرثرة حول مشاركة ايفا لارسون في كتابة الثلاثية أو الزعم الصاخب بأنها هي التي كتبت الثلاثية. ولعل السر في عربدة هذه التكهنات وتلك المزاعم أن ستيج لارسون ظل طوال حياته القصيرة العاصفة صحفيا وكاتبا سياسيا وقد حقق شهرته بسبب حملاته الصحفية المستمرة علي أفكار وتوجهات القوي اليمينية المتطرفة, خاصة النازيين الجدد. وكان قد أسس صحيفة أكسبو التي اتخذ منها منبرا صحفيا رفيعا لنشر مقالاته التي تحذر من المخاطر التي تحدث بالمجتمع من جراء ظهور تيارات اليمين المتطرف, وانتشارها وقد تعرض لارسون لتهديدات بالقتل. واضطر لارسون وايفا إلي مراوغة هذه القوي, حتي يتسني لهما الافلات من أية محاولات لامكان الاعتداء عليهما, وهذا ما يكشف عنه الكاتب باري فورشو. وقد أججت واقعة موته المفاجيء بالسكتة القلبية نظريات المؤامرة ضده, غير ان هذه النظريات لم يتبين حتي الآن ما يؤكدها, والثابت ان لارسون بعد عناء يوم حافل بالعمل اضطر إلي الصعود إلي شقته بالدور السابع عن طريق السلم لان المصعد كان معطلا وقد انهك هذا الصعود قواه مما أدي إلي اصابته بأزمة قلبية أفضت إلي موته. وهنا يشير كل أصدقاء لارسون إلي أنه كان يفرط افراطا شديدا في تدخين السجائر, ولم يكن يهتم بنوعية ما يأكل ويعتمد اعتمادا كبيرا علي الوجبات الجاهزة غير الصحية. ولم يكن يصغي لتحذيرات الاصدقاء من نمط معيشته هذا, ولم يكن يأخذ قسطا من الراحة.. فقد كان يعمل بشكل مستمر وعلي نحو شاق. عائلة سياسية هذا الرجل الذي صار ظاهرة ثقافية باعتباره صحفيا مرموقا وروائيا مبدعا قد ولد عام1954 في عائلة فقيرة ومولعة بالسياسة, وتعانق أفكار اليسار, وقد تولي جده وجدته رعايته حتي بلغ التاسعة من عمره.. ويعزي ذلك إلي أسباب تعثر والديه ماليا. وكان لارسون ابان صباه شغوفا بالقراءة واستبد به الهوي للترحال عندما صار شابا, فقد قام برحلات في القارة الافريقية. وشهد عن كثب الحرب الاهلية الدموية التي اندفعت في أريتريا وهو ما دفعه لتكريس حياته لمناهضة الفاشية والدعوة للتسامح الديني والعرقي, وقد كتب باستفاضة منددا باليمين المتطرف في السويد. وانخرط لارسون انخراطا نشيطا وجادا في مناهضة الحرب الأمريكية علي فيتنام,, وفي احدي المظاهرات التي كانت تندد بهذه الحرب التقي مع رفيقة دربه ايفا جبرليسون, وهي مؤرخة في فن العمارة, ولم يفترقا طوال نحو اثنين وثلاثين عاما. وتؤكد ايفا أن حياتهما معا كانت رائعة وتبدي حماسا وتفهما لمواقفه السياسية اليسارية المناوئة لليمين المتطرف وحركة النازيين الجدد في السويد. وتكشف ايفا في كتابها عن سر بالغ الأهمية, عندما تؤكد ان لارسون كتب نحو مائتي صفحة من رواية جديدة غير انها راوغت في حديث أجرته مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عما اذا كانت ستسمح بنشر الرواية الجديدة بعد محاولة استكمالها أم لا. ذلك ان ثمة خلافات حادة بين ايفا واسرة لارسون حول ميراثه الأدبي, غير انها لم تشر في كتابها إلي تفاصيل هذه الخلافات, وأعربت عن رغبة صادقة في ان كل ما يهمها هو الحفاظ علي مكانة لارسون الثقافية والأدبية. إن ظاهرة ستيج لارسون الكاتب مع الروائي لم تبح بعد بكل أسرارها السياسية والابداعية. ويقول كاتب سيرته باري فورشو: لو لم يكن لارسون قد حلق في فضاءات الشهرة الادبية المدوية بعد نشر ثلاثيته, فإن العالم كان سيتذكره باعتباره بطلا مناهضا لليمين المتطرف والنازيين الجدد. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي