ربيع اليوم, لا يختلف كثيرا عن ربيع الأمس, والأحداث التي نشهدها الآن بعد ثورة25 يناير, لا تختلف كثيرا عن التحديات التي رافقت ثورة1919 التي شارك فيها كل أبناء الشعب المصري. تأليف: عمرو طلعت ملف ثورة1919 التي قامت منذ90 عاما, تقول أن ما جري في أعقاب هذه الثورة العظيمة يتكرر اليوم بعد ثورة شباب25 يناير, رغم إختلاف العصر والأسباب والقيادات.. ربما يكون غريبا أن أقول أنك ستفهم ما يحدث في مصر في ربيع2011, إذا قرأت ما وقع فيها في ربيع1921! الكل يسأل لماذا تشتعل جذوة الفتنة الطائفية هذه الأيام بالذات؟ ما الذي يدفعنا إلي الانقسام حول نقاط فرعية وقضايا ضئيلة؟ من الذي يفتعل أزمات تشطر الأمة وتفتت الصف؟ أين كان كل هؤلاء الذين خرجوا فجأة من الشقوق ليروعوا المصريين ويهددوا أمنهم؟ أن ما نشهده هذه الأيام ليس بجديد! ستكتشف حين تغوص مع عمرو طلعت مؤلف الكتاب في بحار تاريخنا المعاصر أن شق الصف وشطر الأمة هو أخطر سلاح يشهره أعداؤنا كلما هب المصريون في ثورة نبيلة وضاءة يطالبون بالحرية والكرامة, دائما يريدون دفعنا إلي نفق مظلم يشتعل بنيران الفرقة ودخان الانقسام. ستري كيف يتطابق حال مصر الآن مع حالها قبل تسعين عاما, عصبية وتحزب, عنف يتزايد وفتن تتكاثف, آراء تصرخ ومقالات تتطاير, أخبار تتلاحق وأحداث تتسابق, حتي التحرك والتكتيك, يكاد يتطابق مع اختلاف الزمن! وقد أختار عمرو طلعت محور العلاقة السياسية المعقدة والمتشابكة بين أبرز رجلين في ذلك العهد هما سعد زغلول وعدلي يكن, كمنظور يتصدي من خلاله لواحدة من أخصب فترات تاريخنا المعاصر وأثراها حراكا بأحداثها وزخما بشخوصها, ثورة1919 العظيمة وما تلاها من أحداث حتي صدور تصريح28 فبراير.1922 علي أن أهمية الكتاب لا تكمن فقط في معالجته لفترة تزخر بأحداث مثيرة متلاحقة, وإنما بضرورة تناوله بقراءتين, الأولي, والتي صارت الأهم بعد ثورة25 يناير, تنصب علي إسقاط ما جري من أحداث قبل نحو قرن علي ما يجري الآن, ستقلب صفحات من الكتاب فتشعر أنك تقرأ صحف هذا الأسبوع, مما يؤكد أنه يتعين علينا أن نقرأ تاريخنا, لا لكي نفهم ونعي حاضرنا فقط, وإنما لكي يتأتي لنا أن ندرأ الخطر ونئد الفتنة. نعجب اليوم كيف توحد المصريون حول هدف واحد في ذروة أيام ثورة25 يناير, ثم كيف يتشتتون الآن ويختلفون وستقرأ في هذا الكتاب كيف غابت روح الفريق وتكرس العزوف عن العمل الجماعي بعد أن نجحت الخطوة الأولي لثورة.1919 ستقرأ أن الإنجليز بعد أن نجحت ثورة1919, لم يكتفوا بالتخطيط للدغ المصريين بسم الانشقاق, بل حددوا أن أسوأ انقسام ممكن هو الذي تنعكس آثاره علي الشارع ألا تري تشابها, وكل ما يجري حولنا يكاد ينطق بأن أعداءنا يعرفون جيدا أن أخطر الفتن هي التي تدفع بنا إلي التطاحن والاقتتال في الشوارع؟! وكما سعي أعداؤنا بشتي الحيل لإنفاذ الوقيعة سنة1919, تراهم اليوم يستخدمون الوسائل نفسها الشريرة لإشعال الفتنة. ظواهر البلطجة والاجتراء علي القانون التي نعاني منها اليوم ونعتبرها آثارا ترتبت علي ثورة25 يناير, ستجدها متطابقة مع أحداث عنف وشغب وظواهر سطو ونهب وقعت سنة1921! علي أن المؤلف لا يهدف إلي أن نطمئن تحت ظن أن ما يحدث هو أمر طبيعي بعد الثورات, بل العكس تماما, هو يقرع أجراسا عنيفة منبها إلي أن الانقسام تحديدا, هو ما يضعف إنجازا الحركة الوطنية. القراءة الثانية لكتاب سعديون أم عدليون... وفاق وشقاق يفجرها المؤلف حين يبدأ مقدمة كتابه بتحد مثير, فهو يعلن للقاريء أن موضوع الكتاب ليس جديدا!. ويمضي عمرو طلعت في هذا السياق قائلا ليست المسألة إعادة بحث في خلاف جري في عهد أنقضي, لكنها صيحة فكرية لإعادة النظر فيما سماه منهج الشخصية المطلقة الذي يعتبر أنه استشري في كتبنا التاريخية. وينتقد المؤلف هذا المنهج قائلا يبدأ الباحث دراسته بثوابت فكرية عن شخصياته, يصنفها مسبقا إلي ملائكة وشياطين, ثم يشرع طوال العمل في إثبات صحة تصنيفه, فيمجد في الأولين ويصم الآخرين بكل نقيصة, حتي صرنا نستطيع التنبؤ بالتحليل بمجرد أن نقرأ اسم الكتاب!. يبدأ الكتاب بفصل بين إبيانه والآستانه مسقطي رأس بطلي القصة, ويشرح لنا عمرو طلعت, الذي حرص علي اختيار عناوين مثيرة لفصول الكتاب وأقسامه, علي أن يوضح أنه رغم الفارق الشاسع في الخلفية الاجتماعية بين رجل نشأ في إبيانه المصرية وآخر في الآستانة العثمانية, شب الرجلان علي حب مصر والجهاد في سبيلها. ويمضي المؤلف في تشريح كامل لمختلف أطوار العلاقة بين الرجلين, والتي بدأت بوفاق كامل حول قضايا شائكة ثم تحولت وتدهورت تدريجيا حتي بلغت حد الشقاق التام, وفي أقسام معا في برنتانيا وتغير الخاطر الشريف وحلم الوكالة وغيرها, ونري كيف توثقت العلاقة بين الرجلين حين واجها معا الكثير من المواقف الوطنية والأزمات ويفرد طلعت فصل صداقة في أوجها ليروي كيف أستطاع الرجلان معا تنسيق مقاطعة المصريين للجنة ملنر سنة1920 التي تعد ملحمة تصميم وتلاحم صادق, تذكرنا بنضالنا الرائع خلال ثورة25 يناير التي استعادت نبل الخلق وقوة العزم! وتبدأ المشكلات في فصل اختار له عمرو طلعت عنوان غمامة في الأفق لعلها كتلك التي نراها الآن, ليروي كيف بدأ أعداء البلاد يخططون لدق إسفين الفرقة وبعث الانقسام, وتقلب أقسام بيان الشقاق سعد يحاور ملنر وملنر يحاول الفكاك وغيرها لتعرف كيف أستطاع الرجلان هذه المرة أن يجنبا مصر ويلات الانقسام ويبقيا علي وحدتها. ومن خلال خطة الانجليز السرية وتسرب خطاب وضبط التنازلات يفاجئك المؤلف بإثبات أن الإنجليز كانوا علي علم بكل تفاصيل المناقشات داخل الوفد وأنهم حددوا بدقة المحاور التي تؤدي إلي الفرقة والتناحر!. وتجري بنا أحداث القصة عبر عدة عواصم, فننتقل إلي باريس, أو شتاء في باريس كما عنونها طلعت, حيث التقي الرجلان للتحضير لمفاوضة الإنجليز, ويشرح المؤلف في بريد محير واللورد بين الباشا والباشا كيف نما الشك بين الرجلين حتي استطاع أن يحدد بشكل قاطع أسباب وتوقيت الأزمة في قسم سر الأيام الخمسة. مرة أخري ينتقل مسرح القصة إلي لندن في فصل في عرين الأسد حيث تبدأ المفاوضة بين سعد زغلول باشا وعدلي يكن باشا وأعضاء الوفد وبين اللورد ملنر وزير المستعمرات البريطاني, وتتصاعد وتيرة الأحداث مع برقية صاعقة وأزمة وراء أزمة وحديث مع عين الجمل ويشرح المؤلف الخطة السرية التي كان سعد باشا يريد العودة إلي باريس لتنفيذها وكيف لعبت سيناء دورا مهما في المفاوضات إلي أن يصل إلي تحليل برقية سعد باشا التاريخية نبتت فكرة. وتأتي عناوين مثل طربوش وقبعات ووحيد في باريس والسلطان علي المسرح لترسم ملامح الصراع والضغوط التي لاقتها مصر, والتي أحدثت هذا الانشطار الخطير في بنيان الأمة ودفعتها إلي هاوية الانقسام. ويعود الجميع إلي مصر, حيث ينفجر الصراع وتشتعل نيران الفرقة, ومن خلال عناوين مثل الحشود ومناوشة في السيدة ومبارزة في الأهرام وقصف من شبرا وموقعة طنطا يروي طلعت أحداثا دامية داهمت مختلف أنحاء مصر ففزع الناس وانفلت الأمن علي نحو يتطابق مع ما نشهده كل يوم في مصر الآن! استطاع عمرو طلعت أن يثري مختلف فصول الكتاب بالعديد من الوقفات التحليلية المتعمقة لأحداث الفترة ومواقف الأبطال, وتنبع قيمة تحليلات المؤلف من عدم ارتباطه بأيديولوجية مسبقة أو فكر جامد, وستجده يقدم دراسة تتحلي بالأمانة العملية لمواقف وسياسات أخطأ أصحابها مرات وأصابوا مرات. تلك قيمة هذه الدراسة وما تحمله من إضافة الكتاب إذن... رؤية جديدة لموضوع قديم! ولاشك في أن مقدمة الأستاذ الفاضل المرحوم الدكتور يونان لبيب رزق, والتي كتبها في يناير2008 قبل رحيله, والذي يعتبر حجة في علم التاريخ هي إضافة وشهادة اعتراف لهذا الكتاب القيم الذي يعتبر بداية لفتح باب الشخصية علي السياسة المصرية في التاريخ الحديث.