أخيرا وبعد سنوات طويلة من الإهمال الذي يكاد يكون متعمدا, أصدر مجلس الوزراء قرارا بتشكيل الهيئة العليا لتنمية سيناء, والتي يجب تفعيلها وألا تكون مجرد قرار وهيئة, إذ يتعين تفعيلها, بمهام محددة وجدول زمني للتنفيذ وموارد لتمويل مشروعاتها, وأن تكون لها سلطات واختصاصات وقادرة علي التنفيذ دون أن يعترضها الروتين أو تدخل في درج ملفات هيئات كثيرة ومجالس عليا أنشئت ولم تجتمع. إن الذين يتابعون سيناء منذ تحرير أرضها والي الآن لا يستغربون مما حدث فيها خلال الفترة الأخيرة من أحداث شغب وانفلات أمني ومطامع إرهابية, إذ كل هذا متوقعمادام ثلث أرض مصر, وهي مساحة سيناء, تم وضعها في الثلاجة ولم يظهر منها ولم نعرف عنها إلا شرم الشيخ, التي صارت في أحد استخداماتها مجرد مدينة للسياحة ولا يعلم إلا الله ماذا يحدث في هذه السياحة من تجاوزات وما هو العائد الحقيقي منها ماليا واجتماعيا بل واخلاقيا, وها هي الأيام كشفت أوراق الإهدار والاستغلال الصارخ لأراضيها. اكتفي النظام السابق بالاحتفال السنوي بسيناء بعيد يتيم يوم25 ابريل كإجازة للدولة ويذيع التليفزيون أغنية شادية الخالدة مصر اليوم في عيد, وانتهي الأمر عند هذه الحدود وتركت سيناء بأكملها في عملية اهمال واهدار لا مثيل لها لموارد الدولة وامكاناتها وترك الشعب السيناوي مهملا في عالم آخر بعيدا عن عالم الوادي كما يسمونه. والآن مراجعة لملف سيناء تكشف لنا عدة أمور, أهمها رؤية أبنائها لأوضاعهم ثم ماذا قدمت لهم الدولة من تنمية وهل هي كافية أو غير كافية؟.. وهل هي مناسبة لاحتياجاتهم أم أنها لا تتلاءم معهم؟ لقد أتيحت لي زيارة شمال سيناء وعقد لقاء مع أبنائها في مركز النيل للإعلام في عام1988( أي قبل23 عاما) ودار آنذاك حوار ساخن شهده المرحوم اللواء منير شاش محافظ شمال سيناء وأحد كبار الخبراء في أرض سيناء التي يعرفها شبرا شبرا وفردا فردا, كما شهده المرحوم أ.د أحمد عامر عميد كلية تجارة بورسعيد والذي ربطته بشمال سيناء روابط أكاديمية, وقد أثيرت خلاله العديد من القضايا من بينها شركات توظيف الأموال وديون مصر والبطالة والفساد, قالوا وقتها كلاما ساخنا خطيرا.. طالبوا مثلا بنصف دخل قناة السويس( باعتبارها تمر بأرضهم), ويخصص لتنمية سيناء, ولقد( فضفضوا) بالكثير مما يملأ صدورهم ويغلها ومنها مثلا أن شمال سيناء لم تحظ بزيارة أي مسئول. ظلت سيناء كما هي إلا جنوبها الذي دخل في تنمية سياحية لم نعلم أسرارها وأبعادها إلا بعد ثورة يناير, أما الشمال فقد ظل علي حاله والوسط المليء بالخيرات فوق الأرض وتحتها لايزال كما هو, اللهم إلا من مصنع للأسمنت, كما انحسر انتاج الاسماك في بحيرة البردويل. التقيت بعدها المهندس حسب الله الكفراوي وزير الإسكان والمجتمعات العمرانية الجديدة آنذاك, لمناقشته حول تنمية سيناء وخرجت من عنده حاملا خمسة مجلدات ضخمة لتنمية سيناء. يضاف الي هذا تقارير مجلس الشوري, وكذلك دراسة صدرت عن معهد التخطيط القومي أغسطس2007 تشير الي أن مجلس الوزراء قرر في13 اكتوبر1994 استراتيجية لتنمية سيناء ثم بعد ستة أعوام وفي عام2000 تمت إعادة رسم هذه الاستراتيجية لتضم محافظات القناة بتكلفة استثمارية110 مليارات جنيه حتي عام2017, منها64 مليارا لشمال سيناء و46 مليارا لجنوب سيناء, بهدف استغلال الموارد المتاحة وتدعيم الهيكل الاقتصادي والاجتماعي والعمراني والأمني لسيناء, والمساهمة في حل المشكلة السكانية في الوادي وتوطين ما يزيد علي3.2 مليون مواطن. ما تم تنفيذه بالفعل41% من هذا المخطط.. ولكن هل جاء التنفيذ آخذا في الاعتبار طبيعة وخصوصية سيناء؟ ما موقف الأهالي من هذه المشروعات التي نفذتها الدولة؟ إجابة هذا السؤال نجدها في دراسة قيمة للدكتور أحمد أبوزيد وأساتذة آخرين نشرها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية, قالت إن موقف الأهالي من مشروعات التنمية التي نفذتها الدولة في شمال سيناء يختلف كثيرا عن موقف الأجهزة الرسمية المسئولة. مثلا هناك اختلاف في النظرة الي الأولويات, فالدولة وضعت المشروعات في ضوء أهمية المشروع للمحافظة ككل بينما الأهالي يطلبون مشروعات ترتبط باحتياجاتهم مباشرة, فمثلا أقامت للجماعات البدوية قري ومساكن مشيدة بالطوب بينما يري الأهالي أنه كان من الأفضل بدلا من ذلك إقامة مشروعات انتاجية تتيح فرص عمل, وأن يقيم كل منهم مسكنه بالطريقة التي تتلاءم معه, مثال آخر علي هذا الاختلاف فقد انفقت الخطة أموالا طائلة علي اقامة دورات مياه عامة في منطقة الحسنة لم تستعمل قط, وكان الأهم حفر آبار مياه, كما أقامت ورشة لصيانة السيارات ولا توجد سيارات أساسا, وهذا كله يعني أن الدولة ليس لديها الاحساس الكافي بالمطالب والاحتياجات الحقيقية لأهالي سيناء. أهالي سيناء أيضا يشكون من تحيز الحكومة ناحية المناطق الساحلية الشمالية, خاصة المدن, علي حساب المناطق البعيدة في الصحراء, كما أنهم يقولون انه يجب علي الحكومة عدم اغفال رأي الأهالي والاستعانة بخبرتهم الطويلة المتوارثة بطبيعة المناطق التي يراد اقامة المشروعات فيها, فقد أجريت في منطقة نخل عدة محاولات لحفرآبار عميقة ولكنها حفرت في مناطق يعرف الأهالي من طول خبرتهم أنها خالية من المياه. إن أي محاولة جادة لتنمية سيناء يجب أن تأخذ في اعتبارها أن البداوة هي أسلوب للحياة ونمط للانتاج, وكذلك النظم الاجتماعية السائدة حتي يمكن تفاعل المؤسسات القومية والخطط مع التنظيم القبلي. إن فرص التنمية في سيناء هائلة بشرط أن تدار بحكمة ومشاركة وجدية ومراجعة ما سبق وتنفيذ حقيقي يرتبط بجدول زمني يخرج ثلث مصر من الثلاجة. المزيد من مقالات عصام رفعت