لم تعترف بريطانيا, بصراحة, بخطأ حساباتها التي بنت عليها سياستها تجاه الصراع في ليبيا. واختارت تسميات ناعمة, كتلك التي يستخدمها السياسيون عندما يدركون أنهم تسرعوا في اتخاذ القرار, مثل المراجعة أو إعادة النظر في السياسات. عندما انطلقت أولي شرر الأزمة في ليبيا, أخذ التسرع البريطاني شكل الحماس المندفع الذي بدا وكأنه مبني علي تقديرات دقيقة لتفاصيل ما يحدث داخل ليبيا. وبادرت حكومة الائتلاف بقيادة المحافظين, وساندها الفرنسيون, إلي دعوة الحلفاء الأمريكيين والأوروبيين والعرب إن رغبوا, لمساندة دعوتها في مجلس الأمن لفرض حظر جوي لمنع طيران الجيش الليبي من التحليق في سماء ليبيا حتي لا يستخدم في مهاجمة الثوار المتمردين علي حكم القذافي. وصدر القرار في السابع عشر من مارس الماضي مصرحا ب' استخدام كل التدابير اللازمة لحماية المدنيين' في ليبيا. وبدأ حلف شمال الأطلنطي' الناتو' عملياته العسكرية. وبعد12 يوما, نظمت بريطانيا أول مؤتمر دولي بشأن الأزمة الليبية وجري فيه الاتفاق علي تشكيل لجنة الاتصال الدولية, والتي كان مظلة شاركت من تحتها قطر وتركيا والامارات والأردن في جهد الناتو العسكري, ولقي المجلس الانتقالي الليبي اعتراف الكثير من الدول. وبرغم أزمتها المالية الخانقة, دفعت بريطانيا بمقاتلاتها وحاملات طائراتها للمشاركة في عمليات الناتو, وأعطت إسهامها اسما خاصا بها هو' إيلامي'( الإسم النهائي للعملية الحالية للناتو هو الحامي الموحد). سياسيا, سعت الدبلوماسية وبعض العسكريين البريطانيين لتفسير إشارة مجلس الأمن إلي' استخدام التدابير اللازمة' علي أنه تفويض شرعي دولي صريح بقتل القادة الليبيين في الحرب. وأعلن وزير الخارجية البريطاني ويليام هيج أن الأشخاص الذين يشكلون تهديدا للمدنيين, بمن فيهم العقيد الليبي معمر القذافي نفسه, هم ضمن أهداف حملة الناتو. وشجع هذا التفسير البريطاني لقرار مجلس الأمن عسكريين وسياسيين بريطانيين للمطالبة بتسليح الثوار المتمردين علي حكم القذافي لتمكينهم من حسم الصراع عسكريا مع النظام. بالتزامن مع ذلك, اعتبرت بريطانيا مدينة بنغازي, وهي الوحيدة الواقعة كلها تحت سيطرة المعارضة,' عاصمة ليبيا الجديدة' بعد أن جمدت عمل سفارتها في العاصمة الليبية طرابلس. وأنشأت في طرابلس بعثة دبلوماسية وأمنية واستخباراتية وعسكرية فيها لتصبح واحدة من كبريات بعثاتها في الشرق الأوسط. الآن وبعد مايقرب من ستة أشهر علي تفجر الأزمة, تتغير سياسة بريطانيا. وهو تغير تجلي في ميل واضح لرأي فرنسا: من الأفضل أن يتفاوض الثوار علي النظام مع القذافي دون أن يراهنوا علي القوة لأنه لا حسم عسكريا للصراع, لايمكن أن يكون للقذافي مكان في ليبيا الجديدة لكنه يمكن له أن يبقي في البلاد, أخطأنا تقدير قوة القذافي العسكرية. الميل البريطاني لأفكار الفرنسيين, الذين لم يكن حماسهم أقل كثيرا للحسم العسكري في البداية, ليس سوي خلاصة نحو ثلاثة شهور من النقاش, في بريطانيا, بين وزارات الدفاع والخارجية والمالية وأجهزة الاستخبارات وخبراء الشرق الأوسط. نتائج هذا النقاش: أولا: لم يكن دقيقا الاعتماد علي تقديرات وزارة الدفاع والخبراءالعسكريين بأن الحسم العسكري لن يحتاج لأكثر من خمسة أسابيع. ثانيا: لم تحقق تقديرات وزارتي الدفاع والمالية بأن التكلفة هي' عدة مئات من الملايين فقط بمعدل يترواح بين2 و3 ملايين جنيه يوميا'. وكان هذا التقدير أحد وسائل إقناع البرلمان للموافقة بأغلبية ساحقة(557 مؤيد13 معارض) علي مشاركة بريطانيا في الحرب. ولذا فإن أصوات المعارضين المشككين في وضوح أهداف الحرب واحتمال أن تعوض أقدام بريطانيا في مستنقع يصعب النجاة منه دون أضرار أقلها سياسية, قد خفتت. ثالثا: تبين أن الشعب الليبي ليس مجمعا علي رفض القذافي, ومن ثم فإنه بمجرد بدء العمل العسكري سوف تنفض بقية المدن, بعد بنغازي, مما يقصر أمد الحرب ويعجل بسقوط طرابلس. وهذا كان أيضا أحد أسباب اقتناع البرلمان بمشاركة بريطانيا في حرب. بداية التراجع جاءت من وزارة المالية التي ضغطت, بعدما تجاوز الانفاق العسكري التوقعات, علي وزارة الدفاع لتحمل تكاليف الحرب( في ظل الأزمة المالية المتفاقمة). وبإصرار وحزم رفض العسكريون التي تعاني وزارتهم بالفعل من عجز يبلغ مليار جنيه استرليني. إضافة إلي ذلك, أنفقت بريطانيا ملايين, لم تعلن عن عددها, علي مساعدة الثوار علي القذافي في تشكيل مؤسسات لحكومتهم في بنغازي التي زارها وزيرا الخارجية والتنمية الدولية( في الرابع من يونيو). ورغم الدعم العيني, في معظمه, والمالي, فإن الثورة لم تحقق شيئا ملموسا حتي الآن. ثم صدمت ملابسات مقتل الفريق عبد الفتاح يونس, رئيس أركان جيش حكومة الثوار في بنغازي البريطانيين وكشفت عن أنهم لا يعرفون ماذا يحدث في عاصمة حكم ليبيا الجديدة أو غيرها من المدن. مقتل الرجل جاء يوم29 يوليو, أي بعد أقل من24 ساعة من اعتراف لندن رسميا بالمجلس الانتقالي ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الليبي. فكبرت في بريطانيا علامات الاستفهام: ماذا حققنا في ليبيا بعد قرابة180 يوما؟, ما هي طبيعة الحكومة الثوية التي يمكن أن تحل محل القذافي, في ظل الطابع الإسلامي الذي يعكس تشكيل حكومة بنغازي ورئيسها المستشار مصطفي عبد الجليل؟. ( عبر الجنرال بوب ستيورات القائد البريطاني السابق لقوات الأممالمتحدة في البوسنة عن خوف عميق من أن ينتهي الصراع إلي حكومة غير مرغوبة فيها وبذلك تتلقي لندن اللوم من جانب الدول الكبري الأخري). ما الذي يضمن ألا يتحارب الثوار علي الحكم بعد رحيل القذافي؟, ما الذي يضمن ألا يتسرب السلاح من الثوار إلي دول مثل مصر والسودان في ظل تقارير تحذر من ذلك فعلا). ثم ماذا تعني المظاهرات الشعبية الحاشدة التي تخرج في مدن ليبيا مؤيدة للقذافي, وهل من الممكن أن يكون لدي نظام القذافي المتهاوي المتآكل كما تقول الدول الكبري, هذه القدرة علي إجبار الناس علي التظاهر تأييدا له؟. وشكك وزير الدفاع السابق بوب انيسثورث في أن تكون الحكومة البريطانية تفهم فعلا, بعد مقتل يونس الغامض, طبيعة الثوار الذين تتعامل معهم أو حتي طبيعة الشعب الليبي كله. وسانده سير ريتشارد ديلتون, السفير البريطاني السابق في ليبيا. ونصح, في مؤتمر حضره وزيرشئون الشرق الأوسط بالخارجية البريطانية أليستر بيرت في المعهد الملكي للدراسات الدولية'تشاتام هاوس', بضرورة الاعتراف بأن مابين25و30 في المائة من الليبيين, خاصة في طرابلس, لم يحسموا موقفهم من القذافي بعد. اقتنعت الحكومة البريطانية بوجاهة التساؤلات وأسانيد الخوف من تبعات سياستها.وتبرر هذه القناعة بما تراه حكمة تقتضي أن يسوي الصراع قبل ان تتفشي أفكار الثأر والانتقام في ليبيا, لتتحدث لندن الآن عن حل واقعي عملي للازمة في ليبيا. وهو حل يقوم علي قاعدة: عندما يغادر القذافي بطريقة أو أخري, سوف تتغير الأمور. هذه الطريقة يمكن أن تبحث في مؤتمر للسلام بين القذافي والثوار المتمردين عليه, وهو ما يدعو إليه منتقدو سياسة القفز البريطانية في المجهول الليبي.