لعلها المرة الأولي التي ينفذ فيها مجلس الوزراء مباشرة الي واحد من أهم أهداف الثورة في التحول الديمقراطي عندما بدأ في الأسبوع الماضي الحديث عن إنشاء هيئة وطنية للنزاهة ومكافحة الفساد تتلقي بلاغات المواطنين وتحيل ما تثبت صحته منها إلي القضاء. الهيئة بالطبع هي هيئة قضائية مستقلة مهمتها التحقيق في جميع قضايا الفساد السياسي وعمليات تزوير الانتخابات في العهد السابق علي أن تتولي جميع الأجهزة الرقابية موافاة هذه الهيئة بالمعلومات اللازمة. وفي ظل المحاكمات التي تجري حاليا لأركان النظام السابق نكتشف كم كان مهما تشكيل مثل هذه الهيئة حيث الاتهامات التي يحاكم علي أساسها الرئيس السابق مبارك وعدد من أركان حكمه ونظامه تطال فقط آخر ثمانية عشرة يوما من عهده الذي امتد الي ثلاثين عاما تمكن خلالها من إفساد الحياة السياسية بالكامل وبالتالي افسد كل مناح الحياة من اقتصادية الي اجتماعية الي ثقافية وتفككت كثير من روابط المجتمع وأسسه الأخلاقية حتي صار سلوك وصفات المواطن المصري يأتي في ذيل قائمة السلوكيات المحترمة علي مستوي العالم, بل وأصبح محل انتقادات شعوب عربية وافريقية كان المصريون هم معلموهم الأوائل وبناة نهضتهم أيام كانت مصر علي رأس قائمة الدول الرائدة ذات الكلمة والدور.. وبالمناسبة.. لعل ذلك ما يفسر اندهاش العالم من السلوك الراقي للمصريين ايام الثورة الاولي.. الثورة البريئة التي ادهشت المصريين انفسهم قبل ان تدهش الاخرين, فلم نعتد نحن المصريين علي هذا السلوك الراقي.. ولكن يبدو إننا في هذه الفترة من 25 يناير الي 11 فبراير كانت تتلبسنا أرواحا ملائكية هابطة من السماء.. وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي.. وما أن تحقق الهدف الأسمي والاساسي بسقوط مبارك حتي عادت تتلبسنا الروح المصرية التي نجح نظام مبارك في ترسيخها علي مدي سنوات حكمه.. تلك الروح التي فقدت الإيمان بكل شيء وراحت تبحث عن الحلول الفردية وتناست روح الجماعة.. إن ما يحدث الآن من تناحر ومحاولات الاستيلاء علي الشارع المصري باستعراض القوة والتخويف والإرهاب الفكري باسم الدين هو نفسه الذي أراد نظام مبارك أن يزرعه في نفوس المصريين وقد نجح. لا أريد أن انتقص من قيمة المحاكمات الدائرة حاليا سواء لمبارك أو لأعوانه.. ولكن الحقيقة إنها محاكمات لا يمكن أن تحقق وحدها روح وهدف الثورة المصرية.. فقد قامت الثورة بسبب الفساد الذي نال وطال كل شئ والكرامة التي اهدرت والمكانة التي تراجعت.. فليس من المعقول أن نستغرق جميعا في محاكمات عن جرائم ارتكبت فقط في آخر 18 يوما من الحكم البائد ونتناسي جرائم ثلاثين عاما.. وليس من المعقول أن نحاكم الفاسدين عن اموال واراض نهبت ولا نحاكمهم عن الفساد الذي نجحوا في زراعته بالتربة والعقل والثقافة المصرية.. ذلك الفساد الذي يحتاج الي سنوات طويلة للتخلص من آثاره المدمرة. نحن جميعا الذين نشكل المجتمع المصري ضحايا الشياطين الذين أحاطوا بالرئيس المخلوع وصورا له قدرته علي أن يكون الفرعون الإله وان يكون الحكم من بعده بالتوريث للابن.. هؤلاء يجب أن يحاكموا عن هذا الإفساد الشيطاني وليس فقط عن سرقة هنا ونهب هناك رغم ما في ذلك من آثاره المدمرة.. ولكن المؤكد انه لولا كل هذا الفساد ما تمكنوا من أن يسرقوا أو ينهبوا. ازعجني كثيرا ذلك الفهم الخاطئ الذي أبداه عدد من القراء تعليقا علي ما ذكرته في الأسبوع الماضي عن عدم الشعور بأي غضاضة أو قلق من أن يتولي الإسلاميون السلطة في المرحلة الأولي من البناء الديمقراطي الجديد إذا كانت الصناديق سوف تثبت أنهم الأكثر تنظيما وقدرة علي الحشد.. البعض فسر القول بعدم الشعور بالقلق باعتباره تأييد لفكرة وصول الإسلاميين الي السلطة, وهو تفسير ابعد ما يكون عن حقيقة الفكرة التي كنت اقصدها التي تتلخص في انه مع نظام جديد من الديمقراطية الحقة, لا يمكن الخوف من وصول فصيل بذاته الي السلطة طالما في مقدور الناس أن يطيحوا بهذا الفصيل في اقرب انتخابات حرة.. إنما الخوف الحقيقي هو أن يتمكن هذا الفصيل واقصد به الإخوان أو الإسلاميين من السيطرة علي السلطة بشكل مطلق باسم الدين وباسم الدستور الذين يريدون تفصيله علي مقاسهم تماما مثلما كان النظام البائد يفعل.. فليس هناك من فرق بين ديكتاتورية باسم الدين وديكتاتورية باسم الفرعون والأب الراعي.. واعتقد انني قد أوضحت هذه الفكرة في المقال الفائت ولكن لعله يكون في التكرار إفادة. ومن هنا تأتي أيضا أهمية تلك الوثيقة التي يقال ان مجلس الوزراء قد نجح في وضعها تحت اسم وثيقة التحالف الديمقراطي من أجل مصر والتي تضم الخطوط العريضة والمبادئ العامة الواردة في الإحدي عشرة وثيقة التي أعدتها قوي وشخصيات سياسية من مختلف الاتجاهات منذ سقوط النظام السابق والتي تؤكد في مجملها علي أن مصر دولة مدنية ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتحمي حقوق جميع مواطنيها دون تمييز تكريسا لمبدأ المواطنة, مع الحرص علي المادة الثانية من الدستور التي تنص علي أن الشريعة الإسلامية هي مصدر أساسي للتشريع.. فهل نفهم ؟ المزيد من مقالات محمد السعدنى