نحن في تساؤل دائم منذ عشرات السنوات عن الأسباب التي أدت الي اختفاء الانسان المبدع حامل شعلة التنوير... أين ذهب؟ وأين هو اليوم؟هل ذاب وانصهر مع الزمن؟ هل اصبحنا نفتقد صوت الشاعر الذي كانت تؤرقه هموم وطنه يتحرر لسانه من معاقله ويلبسه شيطان شعره... فيقول ولايبالي؟..... وما ينطبق علي الشاعر ينطبق علي الروائي والقصاص والتشكيلي والنحات والاديب ومبدع الألحان وشاعر الكلمات.... هل لكونهم كانوا في زمن بعيد ولامنتمين؟ وعندما اصبحوا اليوم بحكم الضرورة منتمين, فقدوا هويتهم كمبدعين تنويريين! ولكونهم اصبحوا مسيسين حيث المراكز المرموقة والسيارات الفارهة ومئات الارقام في البنوك, فقد تحولوا من مبدعين علي تنويريين الي سعاة بريد, وهكذا حدث مع بعض الاعلاميين اصحاب البرامج المشهورة التي كان شغلها الشاغل البحث عن قضايا الفساد والعمل علي كشفها واجهاضها فأصبحت هذه البرامج اقرب الي السيناريو المحبوكة منه الي الهدف المنشود!! هل اصبحت هموم الاوطان هموما ثقيلة علي قلوب المبدعين والتنويريين لدرجة اللامبالاة؟ نحن غير مندهشين, فمثل هذه الزلات حدثت في أزمنة سابقة تتحلي بالديمقراطية وكأن الانظمة الديكتاتورية هي المسئولة عن تحريك مشاعر المبدعين داخل معتقلاتهم, وذلك يتناقض تماما مع معتقلي الانظمة الديمقراطية التي ينعم بعض معتقليها بنزلاء الفنادق الخمس نجوم, ولكون المبدعين بكل اطياقهم يخافون من بطش هؤلاء واولئك فقد فضلوا الانزواء أو الانطواء علي انفسهم او قبول الارقام والمعلبات.! قلنا ان ذلك لايدهشنا, ولكن ماهو مدهش فعلا ان نعيش عصرا كاملا دون تنويريين, نعيش عصر التسطيح العلمي, عصرا كله ظواهر ماتكاد تطفو علي السطح حتي تزول فلا كتاب ولا شعراء ولا رواة ولاتشيكليون ولاسينمائيون الا قلة قليلة من المبدعين الحقيقيين المنطوين علي ذواتهم, فلقد اصبح كل شيء في ذلك العصر مزيفا, كل شيء رهن البيع والشراء حتي الانسان نفسه قيمه مبادئه اخلاقه ابداعه لدرجة وصل فيها الانسان ان يعرض ابناءه للبيع.... يقول البعض... ان الاقتصاد المتدني هو السبب في انهيار القيم الانسانية وتفشي الفقر والبطالة وعودة الامية عما كانت عليه قبل الثورة, ويقول آخرون ان انظمة سياسية جديدة لم تتحمل مسايرتها دول العالم الثالث ادت الي انهيار مؤسساتها وانظمتها السياسية والاقتصادية مما ادي الي استشراء الفساد الذي يتحكم فيه حفنة من رجال الاعمال, الذين اصبحوا اعمدة قوية لاتهزم ولاتقهر في مجالس النواب, ولكونهم مدعومين من السلطة فهم يعتبرون بمثابة السد المنيع لحماية الدولة من اي مخاطر داخلية تواجهها!! كل ذلك يراه ويسمعه ويعيه جيدا الكاتب والمبدع ولكنه قد غير نفسه بارادته, وابتعد عن الساحة واعتكف الي حد ان الكثير منهم قد تشرنق وأقسم ألايخرج من شرنقته حتي لو زهقت حياته بداخلها, اصبحت الاحداث لاتؤثر فيه ولاتعنيه في شيء اصبح لايبالي بأعظم أو أتفه الاشياء فهو يعيش حالة اللاوعي منذ ربع قرن متزاحما مع نفسه ومع كل مايدور حوله, وربما يكون فقد الاحساس بالآخرين..... ولكن في الجانب الآخر هناك اشباه المبدعين والمثقفين الذين يشاركون ويتحدثون ويدلون بآرائهم ومقترحاتهم حتي في القضايا السياسية والاستراتيجية والاقتصادية علي القنوات الارضية والفضائية, ويدعون العلم والمعرفة وبواطن الامور, والغريب في ذلك انهم في نظر معدي هذه البرامج ومقدميها محل للسخرية, ولقد شاهدنا وسمعنا ذلك كثيرا لكنهم مضطرون لاستضافتهم ولكونهم لسان حال دولهم... أمثال هؤلاء هم من يتمتعون بمناصب كبيرة في الهيئات الحكومية والمؤسسات لكونهم اكثر طاعة واقل مراوغة شاكرين حامدين لا يطمعون اكثر من البقاء علي كراسيهم حتي مابعد السن القانونية للمعاش أما المبدعون الحقيقيون هم الذين يحملون هموم أوطانهم علي أكتافهم, وهم الذين يحملون الشعلة لينيروا بها الطريق لشعوبهم في مجتمع تسوده المساواة والعدالة الاجتماعية وتقل فيه الفوارق بين الطبقات, فالتنوير وحملته ضد التفاوت الشنيع بين الفقراء, الاغنياء, واستغلال الاقوياء للضعفاء وهو كذلك حركة التاريخ ومساره من الماضي الي الحاضر... لذلك خرج مفهوم التقدم منه, ويوجد التنوير في كل مجتمع بواسطة مبدعيه وكتابه وفنانيه وأدبائه وسياسييه, ويظهر كذلك في كل حضارة, وليس خاصا بحضارة بعينها. المزيد من مقالات حمدى حموده