شهدت مصر, بعد الثورة- ولم تزل تشهد- أحداثا جساما تنوء بحملها الأمم والشعوب الكبيرة, لكننا مع, ذلك كله, نقوم أيضا, وننهض, مثل طائر الفينق الذي يعود ويتجدد, شهدنا انتشار مشاعر الإحباط والخوف والغضب والقلق والشك وفقدان اليقين. وسمعنا أصواتا عدة تتأسي علي الماضي, وتناوئ الثورة العداء, وعرفنا أن الماضي يظل قائما في قلب الحاضر, وأنه في قلب هذه الألفة هناك وحشة, وفي عمق هذا الأمن النسبي هناك خوف, وفي جسد هذا اليقين الساطع هناك حضور أيضا للغرابة وللفقدان النسبي لليقين.. إلي آخر تلك الأمور التي نعرفها جميعا الآن, وندركها ونعايشها. لقد أطلق الأستاذ عبد العظيم حماد علي ما يحدث الآن في مصر اسم ثورة الشك- وذلك في مقاله بالأهرام بتاريخ17 يونيو2011- ولم أجد في تاريخ العلم الاجتماعي مصطلحا أقرب إلي هذه الحالة من مصطلح الغرابة(uncanny في الإنجليزية, وفي الألمانيةunheimliche). إنه المصطلح المناسب الذي قد يساعدنا علي فهم كثير مما يحدث في مصر الآن لو استخدمنا ذلك العنوان الشهير لرواية الأديب المبدع يوسف القعيد. فما تلك الغرابة؟ لدي الفيلسوف الألماني شلنج(1775-1854) الغرابة اسم لكل شيء كان ينبغي أن يظل خفيا, وسريا, لكنه علي الرغم من ذلك يتكشف ويتجلي. ولدي المفكر فالتربينامين(1892-1940) تنشأ الغرابة عن ذلك التراكب وليس التركيب, الذي يحدث بين القديم من الأفكار والصور والمباني والمعاني والجديد منها, فيتعايشان معا, أو يحاولان التعايش, علي نحو يجمع بين المألوف وغير المألوف; وقد ينشأ بينهما صراع محتدم مستمر وغريب. ولدي فرويد الغرابة كلمة ذات معان ودلالات متعارضة, فهي تعني البيت أو الوطن; ومن ثم فهي ترتبط بكل ما هو مألوف, يتعلق بمسقط رأس الإنسان, بالأمن, بالحماية وبكل ما يحقق الراحة والطمأنينة, لكن هذه الكلمة نفسها قد تتحول تدريجيا إلي عكسها, نقيضها. قد ترتبط بالمؤامرات, بالتسبب في موت الأشخاص والمعاني, بالغياب, بكل ما هو ضد الألفة والبيت والأمن والوطن, بظهور المكبوت, وعودة الموتي, تحول الأحياء إلي موتي, والموتي إلي أحياء, بالخوف. إنها كلمة مزدوجة الطابع, متعددة الدلالات, حالة انفعالية, إحساس, خبرة تتعلق بما هو مخيف, بما يستثير الفزع والرعب. وتظهر هنا تلك العلاقة الخاصة بين الغرابة والاغتراب, فالشيء الذي أبعد عن العقل, والذي كان من نتاجاته, في مرحلة بدائية أو قديمة من تاريخ هذا العقل, والذي كان وقتئذ- موجودا مع العقل, مألوفا بالنسبة إليه, قد تم إبعاده, بفعل مرور الزمن, وتقدم الخبرات والحياة والعلم, تم كبته, تم تناسيه, ثم إبعاده, لم يعد مألوفا, لكنه فجأة- يعود, لأسباب عدة, وتغيرات شتي. يعود إلي العقل الجمعي في شكل مختلف, يحاول أن يسيطر عليه, أن يعيده مرة أخري إلي الوراء, أن يعيده إلي تلك البدايات, أن يسقط من تاريخه ما اكتسبه من خبرات ومعارف وتقدم; لذلك تكون تلك العودة للغريب, مخيفة, لمن يتأملها ولا ينساق إليها أو معها, لأنها ترتبط بالماضي, بشيء كنا اعتقدنا أننا تجاوزناه, شيء كنا نعتقد أنه مات, أو غاب, لكنه يعود حيا مرة أخري, يعود ويحاول أن يفرض موته علي الحياة. هكذا فإن المألوف, أو الذي كان مألوفا علي مستوي الفرد, أو الجماعة, يعود في شكل غير مألوف, غامض, مخيف, غريب. ولا تتعلق الغرابة هنا, بعودة شيء مختلف غير الذي تم كبته ونسيانه وتجاوزه; لكن بعودة الشيء نفسه, الفكرة نفسها, الشكل نفسه, وكأنه قد تجمد أو ثبت في مكانه, لم تغيره حركات الزمان, ولا تقلبات المكان, هنا يكون الغريب قد اكتسب الطبيعة المزدوجة الخاصة بشيء مألوف, لكنه يبدو لنا غريبا وغير مألوف; لأنه يعود دائما, وعلي نحو متكرر, وكأن الزمن قد تجمد, والعقل قد توقف عن الإبداع والتجدد. والسياسة كما يراها بعض المفكرين سواء كانت سياسات أصولية دينية تعود الي الماضي البعيد او سياسات أصولية ذات توجهات تنتمي الي نظام سابق سقط منذ وقت قريب- هي دائما سياسات مسكونة دائما بأشباح الماضي, بذلك التراث الثوري الذي مات, لكنه الذي ظل أيضا غير مدفون, تم كبته أو إبعاده, لكنه يظل دائما يتحين الفرصة للعودة والظهور. هكذا تكون الغرابة هي المميزة لبعض الاتجاهات السياسية المحافظة, تلك التي تعود إلي الماضي المكبوت وتبعثه بأشكال مألوفة فيه تبدو, كلها, غريبة بمنطق العصر الذي تعود فيه. ويصاحب الغرابة نوع من الغموض الجوهري, ومثلما تصاحب الغرابة عامة- حيرة معرفية, فكذلك الغرابة السياسية, الغرابة المحافظة, الغرابة الأصولية, هي هكذا غير محددة, لا يمكن التنبؤ بها; وذلك لأن تأثيراتها أيضا لا يمكن التنبؤ بها كما قال دريدا. هكذا قد تكون الغرابة نوعا من المواجهة بين الألفة الاجتماعية المنشودة والغرابة القديمة المكبوتة, تلك التي تعود, وتبعث الميت أو القديم من الأفكار والرؤي, ومع عودتها هذه تحمل معها أشباح الماضي وظلاله, بالمعني المخيف السلبي المهدد للاستقرار, لكنها, أيضا- لو تسلحت بالوعي والمرونة, واتساع الأفق والخيال- قد تجدد الأفكار, وترتبط بالإبداع, وتدفع نحو التغيير الاجتماعي للراكد والمعتم, والمضطرب, والمخيف. المزيد من مقالات د.شاكر عبد الحميد