تشهد الساحة العالمية الآن بروز مجتمع كوكبي سوف يؤثر بعمق علي الطرق التي نمارس بها أنشطتنا الحياتية, كما سوف يتحدي العديد من المسلمات التي كانت قائمة في الماضي. وأيا كان شكل هذا المجتمع الكوكبي المستقبلي, فالحقيقة التي يتفق عليها علماء السياسة والاجتماع انه سوف يكون مغايرا لكل ماشهدناه من قبل. وبالاضافة الي هذا فإننا نعيش الآن في خضم تحول مفاهيمي معقد يعيد تشكيل حياتنا في جميع مستوياتها نحو بناء عالم أكثر ترابطا وأكثر فوضوية مما كان عليه الحال خلال القرنين الماضيين, وفي نفس الوقت فإن كوكبنا يعاني من تزييف الحقائق, وسوء الفهم المجحف اللذين تسللا الي الكثير من المجتمعات فسببا العديد من التوترات والانقسامات بصورة أعاقت الجهود الحثيثة لبناء عالم أكثر تناغما وسلاما. وفي ظل هذه الظروف يصبح الحوار بين الأديان هو طوق النجاة والسبيل لاجراء تغييرات حقيقية تركز علي التراث المشترك بين الأديان المختلفة, وتخلق نماذج مفاهيم حاكمة تتجاوز المفاهيم اللادينية السائدة الآن. وبداية فإن علينا أن ندرك أن جميع الأديان ذات طبيعة فريدة مشتركة تؤكد في جوهرها أهمية السلام, والحب, والعدالة, وأنها تخاطب القلب الانساني من خلال نظم فريدة من القوانين والشعائر والرموز والنصوص المقدسة والطقوس التعبدية لكي يجتهد في الوصول الي المثل العليا السابق ذكرها. ولاتترك المعضلات الكوكبية الراهنة لنا أي فرصة لحلها سوي من خلال الحوار البناء بين الأديان. حيث تحتاج الحضارة الانسانية الآن وأكثر من أي وقت مضي الي الغذاء الروحي والأخلاقي, وعلي الرغم من الجوانب الايجابية العديدة لظاهرة العولمة, فإن الآثار السلبية لها عميقة, كما أن تأثيراتها المدمرة لهي أمر يدعو الي الانزعاج البالغ, وفي سياق التغيرات الكوكبية التي لايمكن التنبؤ ببعضها والتعقد العالمي المتزايد برزت ظواهر مثل: الحروب المدمرة, والتدهور البيئي الحاد, والهجرات والتشرد, والفقر, والأزمات الاقتصادية والشعور بالاغتراب لدي المليارات, وهي تحديات جمة تفرض علي البشرية البدء الفعلي في حوار حقيقي بين الأديان المختلفة, ونظرا لأن حل هذه المشكلات العالمية لم يعد ممكنا عن طريق الحلول الفردية, فإن علي الدول والكيانات الكبري أن تمارس مسئولياتها الأخلاقية في تدشين وتعميق حوار حقيقي بين الأديان المختلفة, حوار يسعي الي تحقيق التكامل, وتبادل المعارف, والوصول الي التناغم والتعايش السلمي بين اتباع الأديان علي اختلافها وعلي عاتق المؤمنين بهذه الأديان تقع مسئولية تبادل هذا التراث الموغل في القدم من الحكمة, وتوجيه البشرية لعبور فجوات الشك والريبة, والانقسامات والتجزئة والآراء السلبية المسبقة. والعنصرية, والاستعلاء علي الآخر ومحاولة تهميشه أو استغلاله. وماأطرحه في هذا المقال هو الدعوة للبدء في حوار حقيقي بين الاسلام والبوذية. ويلاحظ الباحثون في علم الأديان المقارن أن هناك قيما أخلاقية مشتركة عديدة بين الاسلام والبوذية, حيث تدعو الديانتان وتؤكدان أهمية حب الآخرين ومساعدتهم. وتتفق القيم البوذية مع القيم الاسلامية التي تدعو الي التعاون والايثار وبالاضافة الي هذا الحب بين الأفراد تدعو الديانتان الي العفة والاحسان والالتزام بفضائل الأخلاق, كما يحذر الاسلام والبوذية من الجشع, والكراهية, والانغماس في الملذات الحسية, والغش والتدليس واذا كانت البوذية تؤكد ضرورة الايمان, واحترام الذات, والتبصر بعواقب الأمور, والسكينة, والوضوح, والكرم, والعطاء بحب وسعادة, والأمانة, والصدق, والرحمة, فإن الاسلام هو الآخر يدعو المسلمين الي تطبيق مكارم الأخلاق هذه. الا أن أبرز ما يميز البوذية هو عدم سعيها للهيمنة الدينية أو السيطرة السياسية أو الاستغلال الاقتصادي للآخرين, حيث تركز البوذية علي الحفاظ علي بيئتها الثقافية, ونظامها الأسري, والالتزام بالاحسان الي الآخرين, والسعي الي الكمال الأخلاقي, وممارسة الطقوس التعبدية, والبحث عن الحكمة والمصداقية,وعلي عكس الغرب, تؤمن البوذية بحق كل ثقافة في أن تحتفظ باستقلالها وهويتها, وبحق كل ديانة في أن تتفتح علي من تحب وقتما تحب وبالطريقة التي تحفظ لها كينونتها وتميزها عن الديانات الأخري, ومن ثم تتصف البوذية بالتسامح مع الديانات الأخري, وبرغبتها في التفاعل معها, وبسعيها نحو التعايش السلمي مع الآخرين. إن احترام الثقافة البوذية للثقافات الأخري, ومقاومتها للغزو الثقافي للآخرين, وتأكيدها القوي علي أهمية الحوار الدائم بين الثقافات والأديان المتعددة بحثا عن التعايش السلمي المتناغم يمثل دعوة مخلصة لنا نحن المسلمين الي مد جسور الحوار مع تلك الثقافة. وهنا تثور في الذهن عدة تساؤلات: كم مؤتمرا تم عقده للحوار بين الاسلام والبوذية في السنوات العشرين الأخيرة؟ أين هي الندوات وورش العمل التي تعقد في الجامعات المصرية بهدف تعميق الحوار بين هاتين الديانتين؟ ماهو دور مؤسساتنا الدينية في تنشيط الحوار الحضاري بين مصر قلب العالم الاسلامي النابض, وعقله المفكر وبين الدول الكبري ذات الديانة البوذية مثل: اليابان, وكوريا الجنوبية, وتايوان؟ الي متي سوف يستمر اهمال العالم الإسلامي للحوار الديني مع تلك الكيانات الاقتصادية الكبري؟ ان التنافس السياسي المحموم والحروب الدولية والأهلية التي عاني منها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي منذ أحداث11 سبتمبر2001 وماتلاها من تبعات ونتائج استراتيجية وسياسية لتؤكد أشد التأكيد أهمية الحوار المخلص بين الديانات المختلفة, فهل يشهد عام2010 تدشين حوار حقيقي بين الاسلام والبوذية؟ هذا ماسوف تجيب عنه الأيام المقبلة.