كنا علي موعد مع مواصلة رحلة التنقيب عن أصول مصر المستقبل, وقد شاءت الظروف في قلب هذا الصيف الملتهب أن يرحل صديق عزيز أضاء مسيرة الوحدة الوطنية وأتاح لجيلين متشابكين من الوطنيين ساحة للتلاقي والعمل الثقافي المشترك. رحل المفكر والكاتب النير مصطفي نبيل منذ أسبوعين, فكان أن اجتمعت مختلف أطياف الوجدان المصري لرثائه والدعوة إلي إحياء رسالته. تشاء الظروف أن يبتعد مصطفي نبيل لحظة اشتداد عوامل الفرقة بين أبناء الوطن. ومن هنا كان لزاما علينا أن نضيء رسالة أجيالنا المتشابكة, رسالة مصطفي نبيل. ألا وهي صياغة الثقافة الوطنية التي تجمع أفئدة المصريين وعقولهم في رحلة مواصلة رسالتنا الحضارية من خلال انجاز أهداف ثورات التحرر والديمقراطية والتقدم. كان مصطفي نبيل من شباب الصحفيين والكتاب الذين تتلمذوا علي الراحل الكبير أحمد بهاء الدين من قبل مدرسة روزاليوسف الوطنية التاريخية. تولي الراحل مصطفي نبيل إدارة دار الهلال أي مجلة الهلال و كتاب الهلال و روايات الهلال من2891 إلي.5002 ومعني ذلك أنه شارك في إعداد الأذهان لعبور إكتوبر واجتهد بعد ذلك في إتاحة ساحة التلاقي من أوسع الأبواب للمثقفين الوطنيين لتعميق ثمار العبور ما أمكن بينما تجمعت معاني التردي بدءا من اتفاقية كامب ديفيد. إن دراسة قائمة مقالات مجلة الهلال وأسماء مؤلفي كتاب الهلال أثناء تولي مصطفي نبيل رئاسة دار الهلال تؤكد أنه عمل جاهدا علي إتاحة المجال لجميع القوي الوطنية المجتهدة في مجالات التحرر والتقدم والثقافة الوطنية دون استثناء, كيف كانت إذن نظرة هذا الرائد العزيز إلي الثقافة الوطنية؟ أولا: فتح الساحة من أوسع الأبواب لجميع مدارس الفكر والعمل علي أرض مصر من الوطنية الديمقراطية إلي الأصولية الإسلامية والإسلام السياسي, من الناصرية والقومية العربية إلي الاشتراكية والماركسية, من أنصار الاقتصاد الحر واقتصاد الدولة, وكذا الاقتصاد المشترك. هكذا تم تكوين دائرة واسعة لتفاعل وانصهار جميع تيارات الفكر والقوي العاملة المؤثرة في قلب المجتمع, مما أتاح لمصر الإفادة من ثمار هذ التعبئة المجتمعية التي كانت تحلم بها أجيال الحركة الوطنية المتعاقبة. ثانيا: التمثيل, تمثيل الجميع دون استثناء في المقام الأول. وهنا جاءت الإضافة الثانية ألا وهي: التواصل بين منجزات طلائع شعب مصر ودولتها الوطنية منذ القدم. وقد تم ذلك بمحاولة الربط بين عرض القضايا المعاصرة في معظم الأحيان بالسعي لاستخلاص دروس العصور الماضية من حيث معالجة التحديات وكيفية تقديم الحلول. ومن هنا تبدي لشباب الباحثين والمفكرين أنهم ورثة حضارة سبع ألفيات عبر عصورها المتتالية, بحيث أمكن استبعاد التناقض بين مختلف مراحل هذا التطور الحضاري الهائل. وهي الحيلة التي يستعملها أعداء الوطن لإضعاف تماسك الأمة المصرية, خاصة في فترات التحرك لكسر التبعية والركود والتخلف. ثالثا: كان إعداد الطاقة الوطنية علي أرفع مستوي يتم إذن بتمثيل مجموع القوي العاملة وتأصيلها في المسيرة التاريخية الحضارية, إلي أن تأتي لحظة التحرك المستقبلي, أي صياغة المشروع الوطني, في إطاره الحضاري الأعم بحيث تستطيع القوي التي تم تجميعها وإعدادها أن تشق الطريق إلي المستقبل وذلك بقوة دفع هائلة لا تملكها مختلف هذه القوي لو تحركت في الآن واللحظة دون السعي إلي تعبئة جميع الممكنات والافادة من التراكم التاريخي الحضاري علي النحو الذي عرضنا له سابقا. أركان صياغة الثقافة الوطنية وتحريكها صوب المستقبل يجمع إذن بين العناصر التكوينية الثلاثة: التمثيل, والتواصل, والشروع. حاولنا أن نقدم هنا هذه الصورة لما تم تحقيقه خلال نصف قرن علي أرض مصر من قلب مرحلة الحرب العالمية الثانية حتي عبور أكتوبر. وقد لعبت مختلف مدارس الفكر والعمل الوطنية أدوارا متفاوتة من حيث الفاعلية والاستمرارية. وكان لمدرسة دار الهلال بقيادة الراحل الكريم مصطفي نبيل دور بارز في تحريك قواها وتصويب خطاها. أنها المرحلة التي شهدت تأليف مجموعة من الأعمال التي مهدت الطريق إلي مرحلة دار الهلال, وفي مقدمتها في اصول المسألة المصرية لصبحي وحيدة(0591) و سندباد مصري لحسين فوزي(1691), و أهدافنا الوطنية لشهدي عطيلة الشافعي وعبدالمعبود الجبيلي(6491) و في الثقافة المصرية(5591), لمحمود العالم وعبدالعظيم أنيس, وما حاولناه من دراسات في الثقافة الوطنية إلي الوطنية هي الحل بين7691 و6002 برد إشارات إلي بعض معالم ثمار أداء الحركة الوطنية. كيف يمكن الإفادة من إسهامات دار الهلال أثناء المرحلة التي وجهها الراحل الكبير مصطفي نبيل؟ اقترح, بعد مراجعة الأوراق المتاحة, أنه قد يكون من المفيد تجميع باب التكوين الذي قدم فيه صفوة من طلائع الفكر والعمل خلاصة رحلتهم الحياتية, في فصل خاص تم نشره في الأعداد الشهرية المتتالية ل مجلة الهلال. لو فعلنا لأتحنا لشباب مصر اليوم خلاصة الجهد الفكري والحراك النضالي لمعظم كوادر الحركة الفكرية والسياسية علي تنوع مدارسها في نصف قرن, ثم هناك مخطوط عنوانه الحرية والطغيان في سيرهم الذاتية جاء ذكره في مقال لزميلنا فهمي هويدي الشروق1102/7/02 هذا لو كان هذا المخطوط مغايرا للكتاب الذي اقترحناه فيما سبق. قد يتساءل زملاء المسيرة, خاصة من الشباب: لماذا هذا الاهتمام البالغ بالراحل الكريم؟ وقد حاولت في لقاء اليوم أن أبين دور الأستاذ مصطفي نبيل في إحياء دائرة الثقافة الوطنية لتكون ساحة مشتركة ينهل منها كل من أراد خدمة مصر في إطار وحدتنا الوطنية دون تفرقة ما دام أن الدين لله والوطن للجميع. المهم في هذه المرحلة التي نحياها ألا نبتعد عن بعضنا بعضا, وأن نسعي صادقين إلي رأب الصدع وبناء الثقة وتعميق المحبة والسعي للتحرك من أجل صياغة مشروع وطني حضاري لمصر المستقبل. كان لقاؤنا اليوم لإحياء ذكري المثقف الوطني العزيز مصطفي نبيل. قد يتساءل البعض: لماذا لا نسعي لمسح ساحة المجتمع المصري الثقافية والسياسية بحثا عن رواد رسالة مصطفي نبيل؟ فهل مثلا من جيل الأساتذة من سعي إلي تحقيق رسالة مماثلة لرسالته؟ وهل من بين أجيال الشباب من بدأ يتجه إلي شق طريق مماثل في ظل تحرك مصر الواجب مع العالم الجديد الطالع من حولنا؟ محور دعوتنا اليوم هو أن نسعي لتكوين دائرة من المؤمنين بأولوية جمع شمل القلوب والعقول في إطار ثقافة وطنية مستقبلية ترفض الانشقاق وتؤكد معاني وحدة أمتنا المصرية في قلب صياغة عالم جديد قال صاحبي: الثقافة الوطنية إذن هي سياج حماية وحدتنا الوطنية لحظة تصاعد دعوات الخلاص إلي حد الصدام. إنها رسالة آراء أجيال متعاقبة من صفوة شباب وعقول مصر.. لابد من إحيائها بعد طول تغييب لتكون مرحبا لشبابنا!.. رمضان كريم!.. [email protected] المزيد من مقالات د.أنور عبد الملك