كما انتقل العديد من وسائل السيطرة والتحكم لمعظم العمليات الحيوية الموجودة علي الأرض إلي الفضاء في صورة أقمار صناعية ومحطات فضائية, انتقل أيضا قطاع واسع من الحروب والمعارك والحوارات والثورات إلي العالم الافتراضي الذي خلفه الإنسان منذ اختراعه للكمبيوتر والذاكرات الالكترونية وشبكات المعلومات فأنشأ داخله جغرافيا جديدة افتراضية مكونة من اماكن وعناوين وشوارع ومسارات في إطار قواعد وقوانين تنظم عملية تبادل المعلومات والاموال والبضائع والأفكار. ويجري علي هذا العالم الافتراضي ما يجري علي العالم الحقيقي من تطور وحياة ومرض وفناء. وصار من المعتاد أن نتحدث عن فيروسات الكمبيوتر بنفس الانزعاج والخوف عندما نتحدث عن فيروسات إنفلونزا الطيور والخنازير. هذه الجغرافية الافتراضية, أو الفضاء السيبريCyberspace كما يطلقون عليه احيانا, فرضت نفسها علي جماعة الأمن القومي في العديد من دول العالم, وعلي رأسهم الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين وإسرائيل واليابان ومعظم دول أوروبا بدرجات متفاوتة من الاهتمام, وصلت في حدها الأقصي إلي إنشاء قيادة سيبيرية أمريكية علي مستوي وزارة الدفاع, مثلها مثل قيادة الطيران والبحرية والقوات البرية. إلخ اعترافا من الإدارة بأن هذا المسرح الجديد للحرب قد أصبح من مسارح الصراع المعترف بها في أية حرب قادمة, بل لعله المسرح الوحيد المشغول دائما, حيث تدور عليه يوميا حروب صغيرة وكبيرة فيها قدر من التلصص والمناوشة والتخريب, وسوف يتطور هذا المسرح مع الوقت ليصبح المسرح المركزي في أية حرب عالمية أو إقليمية قادمة. ويقصد بالفضاء السيبري طبقا للتعريف الأمريكي البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والتي تشتمل علي منظومة الإنترنت, وشبكات الاتصال عن بعد, ونظم الحاسب الآليcomputers وغير ذلك من ذاكرات الكترونية, ونظم تحكم. ومشغلات. ويشير المصطلح إلي الاعتراف بوجود فضاء افتراضي يتم داخله تفاعلات حقيقية بين البشر والمعلومات. ومفهوم المعلومات في حد ذاته وفي صورته الجديدة حديث جدا من الناحية التاريخية, فمن أسماء صماء للاشياء نجح الإنسان في تحويلها إلي أرقام قابلة للحفظ والارسال والاستقبال والتغيير والمحو, وإيجاد من ذلك عالم آخر موصول بعالمنا الحقيقي إلي درجة أنه يلتبس علينا احيانا أي منهما الافتراضي وأي منهما الحقيقي؟ ويحدث بالفعل وبشكل يومي تحرشات سيبرية في الفضاء الافتراضي بين عدد من الدول المتمكنة من هذه التكنولوجيا, كما تجري مناورات تدريبية علي نفس المسرح, ومن المفيد إلقاء نظرة فاحصة علي هذه التحرشات والمصادمات, واستخدام نتائجها في أية استراتيجية تطوير أمنية في المستقبل. ومن الواضح أن درجة الاهتمام بهذا الموضوع قد تزايد بشكل ملحوظ وعلي مستوي أكثر عمقا وشمولا في عامي2008 و2009 وانعكس ذلك علي اعداد ما ينشر عنه من ورش عمل ومؤتمرات. ولم يقتصر ذلك علي الجانب العسكري فحسب, بل اتسع ليشمل المؤسسات الاقتصادية والمجتمع المدني, والأخير كما هو واضح للعيان قد تمكن في كثير من الدول في جعل هذا العالم الافتراضي مسرحا له, وميدانا لحروبه الايديولوجية والسياسية, بدون أن يكون للعاملين علي هذا المسرح مقر حقيقي ملموس حيث يكفيهم أن يديروا معاركهم علي ساحة العالم الافتراضي الممتد بلا حدود, وعلي مشهد من العالم كله, وذلك تطور خطير يحتاج منا إلي إعادة نظر في كثير من أفكارنا القديمة. وهناك في الحقيقة نوعان من الضرر يمكن أن يصيبا الدولة نتيجة تهديدات قادمة من الفضاء الافتراضي. الأول: أن يصدر التهديد من الفضاء الافتراضي إلي أهداف حيوية للدولة موجودة في الفضاء الطبيعي مثل أن تسقط طائرة بسبب فعل جاء من الفضاء الافتراضي أدي إلي تخريب أجهزة القيادة والسيطرة الخاصة بالطائرة وتسبب في سقوطها إلي الأرض وما عليها من ركاب وممتلكات. أو خروج قطار سريع من القضبان بسبب نظام القيادة فيه المتصل بالبنية الاساسية للفضاء الافتراضي, أو انفجار شبكات للغاز والوقود, وكلها خسائر تحدث بسبب اعتماد هذه النظم علي معلومات تم اختراقها وتغييرها أو تدميرها بواسطة جماعات أو دول أو افراد برغم وجود وسائل حماية من نوع خاص لكنها مع الوقت قابلة للاختراق. وأخيرا وفي شهادة له أمام الكونجرس, اعترف احد قادة الأمن القومي الأمريكي بأن زيادة التواصل بين شبكات المعلومات والإنترنت وباقي البنية التحتية الموجودة في الفضاء السيبري تتيح فرصا للاعداء يمكنهم من خلاله قطع الاتصالات, واعطاب شبكات الكهرباء والطاقة والبنوك, وباقي البنية التحتية الحساسة ذات البعد الأمني. وهناك عدد من الدول تمتلك الخبرة والأدوات لشن مثل هذه الهجمات. وتقديرات النتائج تشير إلي أن حجم الخسارة الناتجة من سرقة وتزييف الحقوق الفكرية للصناعة الأمريكية قد وصل في2008 إلي تريليون دولار. ويقول التاريخ العسكري إن أول قيادة جوية لم تنشأ بمجرد ظهور الطائرة كسلاح عسكري, وكذلك الدفاع الجوي الصاروخي لم يكن له في البداية قيادة مستقلة عن القيادات العسكرية الأخري إلا بعد سنوات طويلة عندما أصبح للصواريخ دور بارز مستقل في الحرب, والآن أصبح لنظم التفكير والقيادة والسيطرة الالكترونية مكانة عالية في معظم الحروب الحديثة ما جعل كثير من الدول الكبري تتجه إلي مراجعة عميقة لهذه المنظومة, وطبيعة دورها في حروب المستقبل, وما يمكن ان تتعرض له من مخاطر وتهديدات, ومدي حاجتها إلي قيادة مستقلة. واتصور أننا في مصر لسنا بعيدين عن هذه القضية الاستراتيجية فبرغم وجود تفاوت في درجة الاهتمام بها من مؤسسة إلي أخري, لكن يمكننا الجزم بأننا في حاجة إلي مراجعة شاملة لهذه القضية بكل جوانبها من المنظور الأمني, ومدي تأثيرها علي مواجهة تحديات المستقبل بما في ذلك الجانب العسكري. اتصور أن هذا الموضوع, وهذه النوعية من المخاطر, ليست بعيدة عن مصر. فبرغم أزمة التعليم ووجود نسبة غير قليلة من الأميين إلا أن مصر قد اخذت خطوات مهمة في هذا المجال وأصبح الإنترنت وسيلة شعبية للاتصال بالداخل والخارج, واداة للتعبير الثقافي والسياسي, والاحتجاج والتذمر أو الإشادة والفرح, وعلي المستوي الاقتصادي تعتمد بنوكنا علي نظم المعلومات وشبكاتها في التعامل اليومي وكذلك في الصناعة والتجارة والسياحة. وعلي المستوي الأمني كانت مصر سباقة في ادخال النظم الالكترونية في كثير من الأسلحة, وكانت رائدة في مجال الدفاع الجوي المعتمد بدرجة كبيرة علي القيادة والسيطرة الحديثة, كما اهتمت القوات المسلحة بنشر هذا العلم من خلال معاهدها لنظم المعلومات, ومن المؤكد أن فكرة الحماية والدفاع مأخوذة في الاعتبار حتي لاتفاجأ نظمنا بهجوم غير متوقع في ظروف معينة. وكثير من الدول المهتمة بهذا الموضوع تراجع بصورة دورية درجة استعدادها في هذا المجال, كما تضع برامج مستمرة للتدريب, وتضع سيناريوهات هجومية ودفاعية في مواجهة نظم المخابرات المعادية وجماعات الإرهاب. ومن الضروري أن تتضمن مناهج التعليم في الكليات والأكاديميات العسكرية هذه النوعية من الحروب والاستراتيجيات العسكرية المرتبطة بها خاصة تدريب القادة وعلاقة ذلك بطريقة اتخاذ القرار في مسرح افتراضي تتوالي فيه الاحداث بسرعة الضوء. وإذا كان الخوف في الماضي من أن يفقد طرف سلاحه الجوي علي الأرض, فإن المستقبل سوف يفرض علي القيادات العسكرية علي مستوي العالم ألا يفقدوا وسائلهم في التحكم والاتصال والسيطرة قبل أن تبدأ المعركة. المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد