الحيص بيص.. و الدهولة الفكرية!! كمثل ما كانت تشهده الباحات عند مداخل سينمات أفلام الكاراتيه في السبعينات والناس وقوف انتظارا للدلوف إلي داخل قاعات العرض أو خروجا منها, كان الأمر لا يخل أبدا من عراك مصطنع بين الشباب ملؤه الطيران في الهواء والضرب بالأرجل و' سيف اليد'; مابين تأثر بصور لقطات الفيلم الشاخصة خلف الفاترينات الزجاجية عند شباك التذاكر, تغري الداخلين بأجمل المشاهد التي سيرونها بعد دقائق, ومابين استحضار لتلك المشاهد في مخيلة الخارجين لتوهم من داخل قاعة العرض في محاولة بائسة يائسة لتطبيق ما شاهدوه لتوهم وهذا أخطر ما يسربه الإعلام من تأثير في عقول متلقيه, باعتبار أن السينما تعد من وجهة نظر الإعلام الحديث مصنفة ضمن الوسائل الإعلامية شديدة التأثير ولنا في السياسة الأمريكية أسوة حسنة!! كمثل ما كانت تشهده هذه الباحات, أصبح الوضع في الشارع المصري الثائر ولاشك الشارع العربي أيضا!! فلا يستطيع عاقل أن ينكر تأثير المشهد الإعلامي المترسخ منذ سنوات وسنوات في العقل الجمعي المصري والعربي ليلا ونهارا علي شاشات التلفاز كمحرك رئيسي لا يضاهيه محرك للجموع حين يغضب: إنه مشهد الانتفاضة الفلسطينية في مواجهة جنود الاحتلال, إنها فكرة الجموع الغاضبة غير المسلحة في مواجهة أقوي العتاد, زادها الغضب, وزوادها الحجارة,تنبسط الأذرع إلي منتهي الخلف,والأكف قابضة علي الحجر قبضتها علي الجمر, تقذفه بعزم الشباب علي مرمي البصر, فيتساقط علي الخوذات المتشابهة الخافية لملامح وجوه ترسم لوحة الطغيان في عمومها دون أن تكشف النقاب عن ملامح مرتديها أبدا; ويزيد من بأس هذا النقاب دروع ما تلبث وأن ترتفع هي الأخري في الهواء يحملها هؤلاء الجنود الملثمون بالخوذات عاليا كي يحتموا من وابل أحجار من كل صوب وحدب تنهمر مع تزايد أعداد الرماة من جموع البشر!! أما الرماة, ففرشاة الغضب كفيلة بأن ترسم علي وجوهم المكشوفة ملمح مشترك, تذوب فيه الملامح علي اختلافها,فلا تملك العين أن تميز بين هذا وذاك; فالجميع قد انصهر في لوحة أخري موازية هي لوحة الثوار!! وما بين رحا الصدام الدائر بين الطغيان والثوار ترسخ المشهد الإعلامي في عقول العرب!! صحيح أن أبطاله هناك هم الفلسطينيون, المظلومون ولكن ما المانع أن نرتدي ثوبهم ما دام مذاق الطغيان مشتركا; وصحيح أن الطغاة هناك هم جنود الدولة العبرية الظالمة, ولكن ما المانع أن نلبس جنود( النظام) ذات الثوب عنوة ما دام ثوب الجندية مشتركا ؟ ثوار في مقابل ثوار.. وطغاة في مقابل طغاة!! إذن فلتتحرك آلة الصدام علي نحو مشابه!! ولكن.. إذا كان لثوار اللقطة الحالية منطق في الغضب, تري الجند يستحقون أن ينصب عليهم هذا الغضب ؟ وهل يبرر غضب الثائرين عدوانهم علي أبناء جلدتهم من جند الوطن ؟ لمجرد إشباع رغبة الثوار في لعب الدور المنشود تحت تأثير ذلك المشهد الإعلامي القابع في خلفية العقول في غفلة من الجميع!! يتلفحون بالغطرة الفلسطينية في الميادين المصرية, ويهرولون بالجرحي, فيجسدون المشهد ويعيشون اللحظة التي طالما أعجبتهم, حتي وأن أختلف الخصم, وأختلف السبب و اختلفت القضية برمتها!! إنها فكرة' الحيص بيص'.. تلك الفكرة التي تبلغ مداها سياسيا عندما تسقط الأفراد ومن ورائها الشعوب في براثن ما تغفل تبعاته, ولنا في هذا المضمار والحمد لله رب العالمين أعظم انجازات: يولد الحدث, فتلتهب مشاعرنا تجاهه وليست عقولنا ذات التفكير بعيد المدي فننغمس في الحدث, ونروج له, ونحشد له الأنفس, ونذوب فيه ذوبان الثلج في الماء بدون حساب, فيرتد علينا, فلا نجد لهذا المأزق مخرجا, ونحن الذين بشرنا وآمنا به إلي الدرجة التي لم تجعل أمامنا ثمة بصيص خط رجعة واحد يبرر تبشيرنا بعكس ما روجنا له بعد ذلك!! ولقد جسم الإعلام العربي بما فيه المصري خير وسيلة للانفجار البشري منذ أن اندلعت الانتفاضة الفلسطينية ثم نسي أن يفهم الناس أن بطولة الثائرين في فلسطين علي المحتل ليست هي النموذج في مواجهة جند الوطن الواحد في البلدان ذات السيادة خاصة وأن النظام المستهدف قد سقط, فما أن سقط حتي تساوي الجميع شعبا وجنودا تحت راية العلم, وما عاد يحق لنفر من الناس أن يدمغ الحق بالباطل تحت أي شعار أو مسمي, فلا الجند ينبغي لها أن ترشق الناس,ولا الناس ينبغي لها أن ترشق الجنود!! حتي الفن نفسه قد سقط عندنا في ذات البراثن منذ قديم الأزل.. وأضرب لك مثالا أراه فجا منذ سنوات: فيلم مثل' في بيتنا رجل'.. الفيلم في صميمه يروج لفكرة الشاب( البطل) عمر الشريف الذي حمله حسه( الوطني) علي تنفيذ عملية( اغتيال) لرئيس وزراء مصر أبان حقبة( الملك) الذي عادته( ثورة يوليو) وانقلبت عليه; فلو أننا جردنا المشهد من إطار البطولة الوطنية التي أراد القائمون علي ثورة يوليو تجسيدها في شخص هذا الشاب, لوجدنا أننا أمام قاتل غادر, أعطي لنفسه هو وزملائه في إطار( خلية سرية) الحق في إزهاق روح رأت روح الثورة( آنذاك) أنها ترمز لشخص أخل بميزان الوطنية, فهل يحق لأي نفر منا أن ينصب نفسه جلادا ضد من يراه يخل بميزان الوطنية ؟ وهل يجوز أن نعزز مبدأ الاغتيالات تحت راية الوطن ؟ أم ترانا قد سقطنا في' حيص بيص' علي هذا الصعيد ؟ أعطيك مثالا آخر: جميع أفلامنا ومسلسلاتنا الدرامية لا تخلو من تلميح وتلويح بخطورة التيار الديني, إلي الدرجة التي لم ينج فيها ملتح واحد' فيكي يا مصر' من تهكم واتهام ضمني بالرجعية والتخلف والنفاق والتناقض والإرهاب والقسوة إلي كل ذلك من نعوت وأوصاف بشعة ستظل ذاكرتنا الدرامية تعج بها إلي يوم يبعثون!! انقلب السحر علي الساحر بين ليلة وضحاها وعلت راية الإسلاميين فجأة بعد ثورة(25 يناير) وتبين مدي ثقل هذه الجماعات المعلنة و( السرية) في الشارع السياسي, إلي درجة لن يتسق فيها هذا الوضع مع المتغير الجديد( القادم) علي مسرح الأحداث أبدا!! فهل تتم' تنقية' المشهد الدرامي من كل هذه الاتهامات المكيلة ؟ أم تتم' تحلية' هذا الفيض من الهجوم ؟ أم يتم عرض هذه الأعمال علي حالها داخل واقع مغاير قادم( لامحالة) لكل ما بشر به صناع الدراما ؟ إنها فكرة الحيص بيص, أو ما يمكن أن نسميه' الدهولة الفكرية' التي نعاني منها بانفعالات عشوائية لا تنظر للأشياء من جميع زواياها وانما تكتفي دائما بزاوية أحادية شديدة الخلل شديدة النقصان!! فهل نتعلم في المرات القادمة ؟ المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم