هل كان ضروريا أن تضيع ثلاثة أسابيع كاملة لنعيد اكتشاف أهمية التوحد خلف مطالب الثورة؟ ولنتأكد جميعا مرة أخري أنه ليس من مصلحة الثورة, ولا من مصلحة الوطن توسيع الشروخ بدلا من ترميمها بين أطراف العملية السياسية الانتقالية, الذين هم في الحقيقة أطراف في الثورة أيضا كل بحسب دوره في مراحل الثورة المتتالية, وفي خطة نقل السلطة إلي حكومة مدنية منتخبة؟. الأسابيع الثلاثة التي نتحدث عنها هي الفترة ما بين جمعة الثورة أولا يوم8 يوليو الحالي, وما بين جمعة الإرادة الشعبية اليوم التاسع والعشرين من يوليو, وهي فترة ليست بالطويلة في حساب الزمن, ولكنها بالقطع كانت أثمن من أن تضيع علي النحو الذي ضاعت فيه من خلافات, وتبديد للطاقات التنظيمية, والفكرية بعيدا عن الاستعداد الجدي للامتحان الحقيقي, وهو الانتخابات البرلمانية التي لم يتبق علي إجرائها سوي شهرين أو ثلاثة أشهر علي الأكثر. ومع ذلك, وتمسكا بأهداب الأمل فرب ضارة نافعة, ومثلما يقال ما ضاع من مالك ما علمك, فإنه أيضا يمكن أن يقال ما ضاع من وقتك ما علمك, وها نحن قد تعلمنا من درس8 يوليو أن التوحد خلف مطالب الثورة, وعدم الانجرار إلي معارك جانبيه بين القوي الشعبية بعضها البعض, وعدم الاندفاع إلي تصعيد الأزمات الي حد الصدام مع المؤسسات الرسمية في الفترة الانتقالية, قد أنجز الكثير من هذه المطالب, ووضع الثورة والدولة معا مرة أخري علي طريق واحد وصحيح, ولنتذكر معا أبرز هذه الانجازات, وهي التعديل الوزاري الموسع وإطلاق صلاحيات الحكومة, بما يقود الآن إلي عملية تطهير مقننة لأجهزة الدولة من أركان النظام السابق, وكذلك تطهير وزارة الداخلية, والاجراءات القضائية الكفيلة بمحاكمة ناجزة وعادلة لقتلة شهداء الثورة, وعلنية هذه المحاكمات, وغيرها من محاكمات الفساد والمفسدين, وبدء الإجراءات التنفيذية لسياسات تحقيق العدالة الاجتماعية. السؤال الآن وقد عادت قوي الثورة الشعبية للتوحد مرة أخري خلف مطالب الثورة وفقا لأحدث البيانات والتصريحات الصادرة من مختلف الحركات والجماعات والتيارات: هو هل يستمر هذا التوحد بعد انقضاء اليوم29 يوليو, الذي يشهد مليونية الإرادة الشعبية؟ أم يعود الانقسام في صبيحة اليوم التالي كما حدث في جمعة الثورة أولا يوم8 يوليو؟. من العبث تقديم إجابة قاطعة, ولكن مايجب أن يسترعي الانتباه عند محاولة البحث عن إجابة ذلك السؤال هو اختلاف المقدمات التي أفضت إلي جمعة8 يوليو عن المقدمات التي أفضت الي جمعة29 يوليو التي نشهد أحداثها اليوم, فالمقدمات في المرة السابقة جعلت الوحدة خلف شعار الثورة أولا اضطرارية أكثر منها اختيارية, لأنها كانت استجابة لشعور شعبي عارم بالغضب, أكثر منها حسابا سياسيا لخسائر التشرذم والانقسام. كلنا نتذكر أن مقدمات8 يوليو كانت سلسلة الإجراءات التي استفزت الشعور العام, وجرت كلها في الأيام القليلة السابقة علي اليوم الثامن من يوليو, مثل إخلاء سبيل الضباط المتهمين بقتل الثوار في السويس, وأحكام البراءة في بعض قضايا الفساد, والشعور بإصابة الحكومة بالشلل, وبعجز الإجراءات القضائية عن تحقيق العدالة الناجزة في قضية حقوق الشهداء وذويهم قصاصا وتعويضا وتكريما إذا ما التزمت الروتين المعتاد في عملية التقاضي والمحاكمة. أما مقدمات العودة الي التوحد في جمعة الإرادة الشعبية اليوم التاسع والعشرين من يوليو فهي مختلفة تماما, وتؤدي كلها إلي معني واحد هو العودة الاختيارية إلي الوحدة, بدليل أن المطالب السبعة الإجماعية أو المتوافق عليها بين معظم قوي الثورة الشعبية, لترفع اليوم, تبلورت عبر عملية تفاوضية مطولة جرت في عدة مسارات متوازية, ومتشابكة, وجمعت بين قوي كانت تقف متباعدة عند أطراف المشهد السياسي,, وبلغت ذروتها بلقاء شيخ وإمام السلفيين الدكتور محمد عبدالمقصود بمعتصمي ميدان التحرير ليلة الأحد الماضي, وبزيارة الشيخ حسام أبو البخاري السلفي الذي يوصف بالتشدد بمعتصمي حركة السادس من إبريل في الميدان, وسبق هذين الحدثين, وتلاهما بيانات من مختلف الأطراف تركز علي سلمية الاحتشاد, وعدم وجود نية لدي التيارات الإسلامية المبادرة أصلا بالدعوة إلي مليونية اليوم لفض اعتصام التحرير, وغيره من الاعتصامات في المدن الأخري بالقوة, أكثر من ذلك أن التطور الذي مرت به الدعوة إلي مليونية اليوم منذ اطلاقها من جانب الهيئة الشرعية قبل أسبوعين, كان يسير باستمرار في خط نازل من التطرف إلي الاعتدال, فقد بدأت بالدعوة إلي الاحتشاد تحت شعار الدفاع عن الشريعة ورفعت شعار التحدي الواضح للتيارات اليبرالية والعلمانية واليسارية إلي حد نصحهم بمغادرة مصر ماداموا لايرغبون في الخضوع لإرادة الاغلبيةس, تميل إلي الاعتدال بتأجيل الاحتشاد من الجمعة الماضية إلي اليوم, وبتغيير الشعار إلي الدفاع عن الهوية والشرعية في المرة الأولي, ثم تغييره إلي الإرادة الشعبية في المرة الثانية, وهو الشعار الذي تحتشد تحت لوائه مليونية اليوم, وإلي ذلك فقد فهمنا أن التوجه إلي ميدان التحرير من جانب السلفيين والاخوان والجماعة الإسلامية لن يكون في شكل مسيرات ضخمة تشكل استعراضا مخيفا للقوة. وفي الجانب الآخر التزم المعتصمون في بياناتهم بوقف تنظيم المسيرات خارج ميدان التحرير, وبالتعبير عن احترامهم للتيارات الإسلامية وحقها الديمقراطي في الوجود والعمل السياسيين دون إقصاء, ودون استعلاء بغيضس,, بعض المعتصمين إلي فض اعتصامهم في مدن كالسويس, وأسيوط. أن هذه التعهدات أو المبادرات من جانب الأطراف المذكورة هي في عرف السياسة تنازلات متبادلة لإنجاح عملية التفاوض من أجل التوافق علي أسس إستعادة الوحدة في مليونية اليوم, وهذا ما حدث حتي كتابة هذه السطور, وهذا ما نتمني استمراره اليوم, واطراد البناء فوقه بعد اليوم. ويعود السبب الرئيسي فيها في تقديرنا ذ شعب مصر, وعلي علاقات مصر الدولية, فضلا عن خطورته علي الهدف الأعظم لثورة25 يناير وهو بناء الدولة الديمقراطيه المدنية, كذلك أعادت الأطراف اكتشاف عدم قدرة كل طرف أو كل معسكر من الأطراف المتقاربة علي النجاح وحده, وذلك بعد التجربة العملية في الانفراد بالعمل ولو بالتناقض مع بقية الأطراف, وكانت النماذج هي مسيرتا العباسية, واستكمال التعديل الوزاري رغم التحفظ علي بعض الشخصيات بدءا من رئيس الوزراء نفسه في جانب معتصمي التحرير, وأما النماذج لدي التيارات الإسلامية فكانت التراجع عن الشعارات والتهديدات المتطرفة فور الشعور بالقلق العام في أنحاء مصر منها, وهو قلق لم يقتصر الشعور به علي النخب المثقفة فقط, بل شعر به المتدينون غير المنضمين الي تيارات أو تنظيمات سياسية, فضلا عن علماء الأزهر الشريف كما ظهر في تصريحات نشرتها الأهرام في حينها للشيخ علي عبد الباقي الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية. وهناك نماذج أخري لاكتشاف الأطراف المؤثرة من غير الإسلاميين ومعتصمي التحرير والميادين الأخري. عدم جدوي العمل التصعيدي الانفرادي, منها انسحاب الجمعية الوطنية للتغيير من الاعتصام, وبيان المهندس ممدوح حمزة الداعي الي احترام مكانة ودور الجيش, وغير ذلك من المبادرات والبيانات المماثلة. تلك إذن هي المقدمات التي قادت الجميع اختياريا وبحسابات السياسة العملية إلي إعادة التوحد وراء مطالب الثورة التي تحددت في جمعة8 يوليو, مضافا إليها في جمعة اليوم التأكيد علي الجدول الزمني لنقل السلطة إلي حكومة مدنية منتخبة, وهكذا نكون قد دخلنا في قلب القضية الأساسية التي يجب أن ننشغل بها جميعا, والتي توارت خلف أحداث الأسابيع الثلاثة الماضية, فالقضية هي الانتخابات والانتخابات والانتخابات, إذ أن هذه الانتخابات هي التي سوف تقيم النظام السياسي لثورة25 يناير دستورا وبرلمانا, ورئيسا, وحكومة, واقتصادا, وثقافة, وإعلاما وصحافة.. إلخ وإذن فإن علي الجميع أن يعملوا لكي تأتي الانتخابات بالكوادروالسياسات والقيم التي تبني نظام الثورة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. حقا لا تزال أغلب الأحزاب والقوي السياسية بما في ذلك حزب الحرية والعدالة الممثل للإخوان المسلمين( الذي يخشي من هيمنته علي البرلمان المقبل كثيرون) ترفض قانون مجلسي الشعب والشوري, وكانت الغالبية تفضل قانونا يأخذ بنظام القائمة النسبية وحده, مع استبعاد نهائي لنظام التمثيل الفردي, وذلك خوفا من تسلل فلول الحزب الوطني إلي الحياة السياسية مرة أخري عن طريق الانتخابات الفردية, اعتمادا علي العصبيات القبلية أو المال السياسي, ولكن نافذة للأمل في تفادي ذلك الاحتمال المشئوم قد فتحت بقرار مجلس الوزراء يوم أمس الأول تعديل قانون الغدر لينص علي عزل المتهمين بافساد الحياة السياسية من المواقع القيادية في الدولة, والأهم علي منعهم من الترشح للانتخابات النيابية والمحلية والتصويت فيها لمدة خمس سنوات علي الأقل, ولا بد, أنه من تحصيل الحاصل, أن نؤكد أن صدور هذه التعديلات وتطبيقها لا بد أن يحدثا باسرع ما يمكن, وقبل وقت كاف من بدء إجراءات العملية الانتخابية. إن مصر بثوارها ومؤسساتها للفترة الانتقالية يجب أن تسير في ثلاثة خطوط متوازية بعد مليونية اليوم التي بدأت بمقدمات مختلفة ويجب أن تؤدي إلي نتائج مختلفة, هذه الخطوط هي أولا المحاكمات العادلة والناجزة والعلنية وقد وضعت الضمانات اللازمة لذلك, وثانيا إعادة النشاط الاقتصادي إلي طبيعته في سياق من الالتزام بالعدالة الاجتماعية,وثالثا نقل الصراع السياسي من منصات الميادين إلي التنافس علي أصوات الناخبين [email protected]