من الواضح أن نزعة تأليه الحاكم التي تعود إلي آلاف السنين مازالت متأصلة عند الكثيرين في مصر. والحاكم لا يعني بالضرورة إنسانا بعينه لكنه من الممكن أن يكون سلطة أو مؤسسة تتولي المسئولية العليا. وما أسمعه وأقرأه عن المجلس العسكري الأعلي في هذه الأيام يدل علي نزعة تأليه الحاكم وأنا علي ثقة من أن أعضاء المجلس أنفسهم ليسوا سعداء بالإطراء والتزلف وكلمات المديح الزائدة والهتافات الحماسية والتي تشبه كثيرا ما كنا نسمعه من البعض عن مبارك من الحكمة في اتخاذ القرار ونفاذ البصيرة وأنه هو الذي يعرف مصلحة البلاد ويدافع عنها وأنه الدرع الواقية للشعب المصري ولولاه لأصاب مصر الخراب. لم تقم ثورة مصر كي تتحول هذه الكلمات من شخص حسني مبارك إلي أي شخص آخر أو جهة أو مؤسسة تتولي حكم البلاد سواء مؤقتا أو غير مؤقت. فثورة 25 يناير وجهت ضربة عنيفة لغريزة تأليه الحاكم ولا شك أن الرجال والنساء الذين ينزلون لميدان التحرير وغيره من الأماكن العامة للمطالبة بحقوق الناس هم رمز حي للروح الجديدة التي ابتعثتها الثورة في الإنسان المصري. وأعلم أن للسلطة طعما خاصا أحلي من طعم الشهد يجعل من يذوقه لا يستطيع أن يتخلي عنه, لذلك فإني أنادي بألا تطول الفترة الانتقالية ويطول تولي المجلس العسكري القيام بدور وصلاحيات رئيس الجمهورية. ومن هذا المنطلق فقد طالبت منذ اللحظة الأولي بتحديد يوم الانتخابات وأيام الإعادة. أما موضوع شهر سبتمبر وشهر أكتوبر فهو مثل النكتة التي تقال قابلني يوم الجمعة القادم دون تحديد ساعة معينة. وعدم تحديد الساعة ينسف فكرة الموعد من أساسها لأنه يجعلها مائعة ينقصها الوضوح والتحديد. وللعلم فإن موعد انتخاب الرئيس الأمريكي القادم معروف من الآن وهو 4 نوفمبر 2012 وموعد توليه السلطة رسميا وانتقاله للبيت الأبيض معروف منذ الآن بالساعة وهو في صباح يوم 20 يناير 2013 وكذلك موعد الانتخابات التشريعية سواء في أمريكا أو غيرها من الدول الديمقراطية. وانتخابات الرئيس في فرنسا مثلا تجري في الأحد الثاني من شهر مايو كل خمس سنوات. وهذا التحديد يجعل المجتمع في حالة من الاستقرار والطمأنينة علي مستقبله. وتقديري أن الموقف المائع الذي نواجهه في مصر منذ الثورة وعدم تحديد استحقاقات الانتخابات هو سبب رئيسي في حالة الفوضي والاضطراب التي نعيشها الآن. وقد صرح أعضاء المجلس العسكري مرارا بأنهم لا ينوون البقاء في السلطة وأعربوا عن رغبتهم في تسليمها لحكم مدني في أسرع وقت ممكن. لكن هذا لا يعني أن دور الجيش سوف ينتهي بذلك ويقتصر بعد هذا علي الدفاع عن حدود مصر وأمنها القومي. فسوف تمر مصر بمرحلة انتقالية صعبة تحتاج فيها إلي جيشها. لذلك يتعين علينا أن نعترف بأن دور الجيش سوف يستمر في مصر لسنوات طويلة ولا بد من أن نجد الصيغة المناسبة لكي يكون هذا الدور إيجابيا ولصالح الأمن والاستقرار ولا يكون معرقلا لاستتباب نظام ديمقراطي حقيقي في مصر. وفي رأيي الشخصي أن للجيش دورا أساسيا في المرحلة القادمة إن كنا متفقين علي ضرورة استقرار نظام ديمقراطي حقيقي في مصر ولا نكتفي بصورة باهتة للديمقراطية. ويتمثل هذا الدور في مهمة الضامن الأمين لدستور البلاد فتكون مهمة الجيش التصدي لكل من تسول له نفسه الخروج عن النص والعودة إلي نظام ديكتاتوري مع بعض التعديلات الجمالية أو نظام بوليسي مشابه لنظام مبارك. وأنا علي ثقة أن هناك الآن من يتربصون وينتظرون لحظة التمكن من الوصول إلي الحكم عن طريق صناديق الاقتراع ثم يلغون بعدها الديمقراطية ويتربعون علي الحكم كما فعل مبارك وغيره من حكام مصر. وهناك أمثلة من التاريخ أشهرها الحزب النازي الذي بقي قابعا منذ بداية العشرينيات من القرن الماضي في انتظار اللحظة الملائمة وسط الظروف المضطربة التي كانت تمر بها ألمانيا وأوروبا كلها واستغلوا جرح الهزيمة في الحرب العالمية الأولي ليرفعوا شعارات العزة والكرامة وتفوق الجنس الآري ففازوا بالانتخابات التشريعية وصار زعيمهم هتلر رئيسا للوزراء عام 1933 وتصور الشعب الألماني أنه يعيش في ظل نظام ديمقراطي فعلي. لكن زعماء النازية كانت لديهم أجندة مختلفة فقضوا علي الديمقراطية من أساسها وألغوا الانتخابات وزجوا بالعالم في حرب طاحنة أودت بحياة عشرات الملايين من أبناء البشر. ومنذ نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين ومدة نصف قرن لجأت تركيا إلي مؤسستها العسكرية للحفاظ علي الدستور وكانت تجربة ناجحة جعلت تركيا دولة مستقرة عرفت درجة من الرخاء لم تعرفه دول الشرق الأوسط باستثناء الدول البترولية التي هبطت عليها الثروة من السماء. ولأن الجيش المصري يحظي باحترام وتقدير الشعب فإنه مؤهل للقيام بهذا الدور والتصدي لأي ديكتاتور قادم. ولو كان الجيش قد اضطلع بهذا الدور من قبل لما استطاع أنور السادات تعديل الدستور ومد فترة الرئاسة إلي ما لا نهاية ولما استطاع مبارك التلاعب بالدستور لصالح عملية التوريث. المزيد من مقالات شريف الشوباشي