ثلاثة أيام من الكلام الثقيل جدا, مرت علي مدينة بورسعيد وكأن شيئا لم يكن..كلام يمس حياتنا وصحتنا وأوضاعنا المنيلة بستين نيلة, لا كاميرات لا برامج توك شو, لا إثارة, لامظاهرات, لا اعتصامات, لا مطالب فئوية.. فقط عشرات الجراحين والأطباء في قاعة متوسطة في فندق قطاع عام سيئ الإدارة, يقلبون في أوراقهم ويدلون بمعلومات مخيفة عن حال أكباد المصريين, كأنهم يؤذنون في مالطة.. يكفي أن نعرف أننا: كنا نستقبل قبل عشرين سنة حالة أورام في الكبد أو المرئ أو البنكرياس أو القولون كل شهر تقريبا, الآن عشرين حالة.. ناهيك عن الفشل الكلوي.. أمراض شديدة الخطورة, إن لم تنهك الجسد وتستهلكه مثل وحش مفترس, فهي تدفعه إلي الفناء. المعلومة علي مسئولية الدكتور محمد عبد الوهاب رئيس جمعية جراحي الكبد والبنكرياس.. إذن نحن أمام مرض تضاعف عشرين مرة في عشرين سنة, ولا أظن أن شعبا تضاعف فيه مرض في منتهي الخطورة بهذه المعدل الرهيب.. كانت كل الأبحاث التي استعرضها المؤتمر الرابع لهؤلاء الجراحين, بإحصائياتها وعملياتها ورسوماتها التوضيحية تحذر المصريين من المصيبة التي يعيشون بها وفيها.. تخيلوا أن الكبد الذي هو مصنع تنقية الملوثات هو نفسه يتعرض للتلوث المرضي من الطعام والمياه, فتركن فيه فطريات ومعادن ثقيلة ومواد كيماوية وهرمونات وفيروسات.. وتحوله إلي مزرعة فاسدة متليفة. وهنا علينا أن نتوقف كثيرا عند طعام المصريين, خاصة رغيف العيش, وقد أجريت دراسة علي مرضي مصابين بأورام الكبد في المنصورة, وجد أن نسبة التلوث في هؤلاء المرضي من الأفلا توكسين15 ضعف المرضي العاديين, والأفلاتوكسين هو نوع من الفطريات تنمو علي الحبوب والبقوليات المخزنة في نسبة رطوبة عالية, وطبعا الحبوب في مصر تخزن بطريقة كلشن كان, والأسواء أننا في الغالب نستورد حبوبا رخيصة قديمة ثم نعاملها أسوأ معاملة في الشحن والنقل والتخزين في الصوامع المعرضة للهواء طوال الوقت, والحبوب القديمة عموما هي بيئة مثالية لهذه الفطريات اللعينة, أما البقوليات المعلبة فقد لاتخزن بطريقة سليمة بغض النظر عن تاريخ الصلاحية, وقد تنمو أيضا علي سطح الجبنة الرومي إذا لم تصن وفق المعايير السليمة.. أما عن تلوث المياه فحدث ولاحرج..وقد لاحظ الدكتور محمد عبد الوهاب خلال عمله الدائم في معهد الكبد الشهير بالمنصورة أن معظم المرضي قادمون إليه من محافظات الدلتا المحيطة به, وهم فلاحون يستخدمون مياه المصارف في الري في الفترات التي تقل فيها مياه الترع والرياحات, كما أن أعدادا كبيرة من المصريين يستسهلون المرض والموت ويلقون في المجاري المائية بمياه الصرف الصحي المنزوحة من غرف الصرف في القري التي تفتقر إلي نظام صرف صحي طبعا.. ناهيك عن وجود مئات المساجد والبيوت والزوايا علي ضفاف المجاري المائية تتخلص من نفاياتها فيها, ثم تروي بها الأرض الزراعية..بالإضافة إلي إلقاء الحيوانات النافقة, والزبالة في النيل عيني عينك.. كما لو أننا نتآمر علي أنفسنا! هذه الملوثات حين تسكن في الكبد تلعب في تركيبة خلاياه, وبدلا من أن يكون مصنعا للتنقية ينقلب إلي وحش سرطاني..يقتات علي جسد صاحبه! وسألت الدكتور محمد عبد الوهاب عن إحصائيات عامة.. فقال: لا توجد خريطة صحية للمصريين, فأولا: شهادات الوفاة التي تستخرج من مكاتب الصحة90% منها مكتوب فيها هبوط حاد في الدورة الدموية, ولايذكر السبب الحقيقي الذي قد يكون تليفا في الكبد أو فشلا كلويا أو ورما خطيرا..إلخ. وهذا تهريج لامثيل له في أي بلد في العالم.. ثانيا: إلزام لجميع المستشفيات العامة والخاصة والمراكز الطبية والعيادات أن ترتبط بشبكة معلومات, تسجل أولا بأول كل الحالات التي تتوافد عليها ونوعية أمراضها..حتي نتعرف بدقة علي صحة المجتمع, ونحافظ عليها بوسائل صحيحة. ثالثا: علينا أن نفكر بشكل مختلف في انفاقنا العام, الصحة أهم من أي شيء آخر في مصر, فما هي قيمة المجتمع العليل؟!, وماذا يفيد أن ننفق عشرات المليارات من الجنيهات علي علاج قد يثمر أو لا يثمر, كيف نستفيد من مواطنين صحتهم هزيلة غير قادرين علي العمل بكفاءة, كيف نفقد اقتصادنا علي العلاج؟ التفكير العلمي يتطلب أن نشتري أجود أنواع الحبوب مهما كان سعرها, أن ننقذ البيئة فورا من التلوث مهما كانت التكاليف.. سكت الدكتور محمد عبد الوهاب ثم ابتسم في مرارة وقال: هل تصدق أن أطباء في النرويج واسكتلندا يحسدونني علي كثرة المرضي عندي, بسبب الأبحاث التي أجريها, فهذا النوع من الأمراض الناتجة عن فساد الطعام والماء تكاد تكون اختفت من العالم المتقدم ونصف النامي.. للأسف تحررنا سياسيا, ولكننا مازالنا محتلين بالمرض!