تعاني نظم الحكم العربية من أزمات شرعية وتأييد, إلا أن هذه الأزمات ليست من نفس النوع ولا بنفس القدر. فالنظم التي تمت الإطاحة بها في مصر وتونس كادت تكون محرومة تماما من قاعدة تأييد اجتماعي يعتد به , أما النظم التي تقاوم السقوط بعناد وصل إلي حد تعريض الأوطان والشعوب لمخاطر الحرب الأهلية, كما هو الحال في ليبيا واليمن وسوريا, فإن نظم الحكم فيها تتمتع بتأييد يسمح لها بمقاومة قد تطول أو تقصر, لكنه لا يسمح لها بحسم الصراع لصالحها, أو باستعادة الأوضاع السابقة علي بدء الاحتجاجات. هناك فئة ثالثة من نظم الحكم العربية تتمتع بتأييد كاف لكنه بات مشروطا بإحداث إصلاحات جوهرية في الاقتصاد والسياسة بعد أن رفعت الثورة في بلاد عربية أخري من سقف توقعات الشعوب في هذه البلاد, وهو ما نجد مثالا له في المغرب والأردن والجزائر. أما دول الخليج الغنية بالنفط فإنها ليست بعيدة عن هذه الفئة الثالثة من الدول العربية, وإن كانت الموارد المالية المتاحة لنخبة الحكم هناك, بالإضافة إلي المرحلة المبكرة من التطور والتعقيد التي يمر بها المجتمع السياسي في هذه الدول, يعطي للنخب الحاكمة هناك براحا يسمح لها بتعزيز قواعد تأييدها الاجتماعي عبر سياسات توزيعية لا تؤثر كثيرا في هياكل السلطة والثروة في المجتمع والدولة. ففي تونس ومصر كانت النخب الحاكمة هناك أوغلت في السيطرة علي المجتمع, حتي إنها تصورت القدرة علي الاستغناء عن أي قاعدة تأييد اجتماعي فعال وعن أي مؤسسات سياسية حقيقية, فتحولت الدولة ونخبتها إلي كيان معزول معلق في الهواء, سهلت الإطاحة به في انتفاضات جماهيرية قصيرة. ففي مصر, وتشبهها في هذا تونس, خسرت نخبة الحكم تأييد الطبقات الدنيا منذ تخلت نخبة الحكم عن نظام رأسمالية الدولة التي اعتمدت سياسات توزيعية قام علي أساسها تحالف الطبقات الوسطي والدنيا في العهد الناصري وبعده بقليل. أما في العقد الأخير الذي عمقت فيه نخبة الحكم سياسات التحول نحو اقتصاد السوق, فإنها خسرت تأييد الطبقات الوسطي التقليدية التي تكسب رزقها من العمل في وظائف جهاز الدولة والقطاع العام, بينما لم تكسب تأييد الطبقتين الوسطي والعليا الحديثة التي استفادت كثيرا من هذه السياسات نفسها. فانتشار الفساد والاحتكار والاستبداد قصر قاعدة تأييد الحكم علي فئات محدودة جدا في الطبقات العليا, وهي طبقة ضيقة لم تكن قادرة علي توفير قاعدة تأييد للنظام, فسهلت الإطاحة به علي يد شباب مصممين نجحوا في إسقاط حاجز الخوف واللامبالاة الذي حال دون تكون حركة احتجاج فعالة لسنوات طويلة. وربما كانت المفارقة هي أن الطليعة الشبابية التي فتحت الطريق للثورة في مصر جاء قسم كبير منها من أبناء الطبقات الوسطي الحديثة التي ساهمت سياسات النظام في نموها, ولكن سياسات النظام نفسه لم تستطع أن تحقق لهذه الطبقات حلمها في نظام سياسي ديمقراطي شفاف يقوم علي الكفاءة والمنافسة في السياسة كما في الاقتصاد. ومع أن الطبقات الوسطي الحديثة في تونس لم تكن المبادرة بالاحتجاجات التي أدت إلي إسقاط النظام هناك, إلا أن انضمام الطبقة الوسطي التونسية للثورة في مرحلتها الأخيرة كان هو العامل الحاسم الذي مكن الثورة من الانتصار. خارج الفئات الضيقة من الفئات التي ارتبطت بقوة بالنظامين في تونس ومصر, فإن النظامين لم يعدما وجود فئات اجتماعية استفادت من سياساتهما وتكيفت مع مشكلاتهما أو تجاهلتها, وهي فئات توزعت بين الطبقات الاجتماعية المختلفة, ولم تكن قاصرة علي طبقة بعينها. غير أن هذه الاستفادة كانت من قبيل التحايل علي العيش, أو أنها لم تكن كافية لإثارة حماس هذه الفئات للتعبير عن تأييدها الفعال للنظام. فقاعدة تأييد النظام في البلدين كانت من الهشاشة بحيث أنها كانت من نوع التأييد حتي ينفذ قضاء الله, أكثر منها تأييدا عن قناعة وحماس. وبينما كان تأييد هذه الفئات كافيا لاستكمال الإطار السياسي والمسوغات الشكلية لشرعية النظام في ظروف الاستقرار الركودي الذي ساد, إلا أنه لم يكن يوفر كافيا لتعبئة هذه الفئات للتعبير عن تأييدها للنظام فيما وراء ذلك. لهذا فإنه ما إن نجح الشباب في خلق حالة ثورية, إلا وأصبح تأييد هذه الفئات غير ذي صلة, فتم تحييدها بدرجة شبه كاملة عن تفاعلات المرحلة الثورية. مصر وتونس تمثلان الحالتين المتطرفتين لنظم حكم عربية فقدت قواعد تأييدها الاجتماعي, وهما نفس الحالتين اللتين تطورت فيهما الأمور بشكل فتح الطريق لتطور سياسي ذي أفق ديمقراطي. الوضع الأكثر صعوبة تواجهه بلاد عربية تآكل فيها تأييد نظم الحكم, لكن النخب الحاكمة فيها ظلت متمتعة بقدر من التأييد الاجتماعي يسمح لها بتجنب الرحيل السريع تحت ضغط المعارضة الثورية. ليبيا واليمن وسوريا تنتمي لهذه الفئة من البلاد. ففي ليبيا واليمن مازالت نظم الحكم تتمتع بتأييد قبائل موالية- أو أقسام منها- اصطفتها نخبة الحكم لتشركها معها في عوائد السلطة. أما في سوريا فإن الطبيعة الطائفية لنظام الحكم تتيح له الاعتماد علي التأييد القوي من جانب الطائفة العلوية المسيطرة علي المفاصل الرئيسية لأجهزة الدولة, بحيث إن انفتاح المواجهة بين الحكم والمعارضة علي مصراعيها يمكن له أن يؤدي إلي صراع طائفي من ناحية, وإلي انهيار جهاز الدولة من ناحية أخري. ومع أن الطائفة العلوية الحاكمة في سوريا لا تمثل سوي نسبة محدودة من السكان تتراوح بين10-15%, إلا أن الخوف من مخاطر تصعيد الثورة يبقي نسبة كبيرة من السوريين في موقف الإحجام عن الانضمام للمعارضة, بينما لا يعبرون عن تأييد مخلص للنظام السياسي ونخبة الحكم. فالعوامل القبلية والطائفية في هذه المجموعة من البلاد تمثل العنصر الأكثر تأثيرا في تحديد مسار ومصير الصراع فيها, ومع أن بلدا مثل سوريا يقوم علي بنية طبقية متطورة بقدر لا يمكن تجاهله, إلا أن دور الطبقات الاجتماعية السياسي هناك يعاني من قدر كبير من التهميش بالقياس إلي الدور البارز للقبيلة والطائفة. الخوف من الثورة الذي يساعد علي بقاء النظام في سوريا نجد نظيرا له في بلاد عربية أخري تبدو أكثر استقرارا. فرغم الجهود المستميتة من جانب قوي معارضة في الجزائر والأردن لتنظيم احتجاجات حاشدة, فإن هذه الجهود لم تفلح في تعبئة أعداد كافية من المواطنين رغم وجود أسباب للاحتجاج تشبه تلك الموجودة في مصر وتونس. الخوف من عدم الاستقرار وذكري الحرب الأهلية القريبة واحتمالات تجددها يبقي المواطنين الجزائريين بعيدين عن الاستجابة لدعوات المعارضة. أما في الأردن فإن انقسام السكان بين أغلبية محدودة من الفلسطينيين وأقلية كبيرة من الشرق أردنيين, واعتماد الملكية علي تأييد الشرق أردنيين رغم مظاهر التململ التي بدأت في الظهور بينهم, هذا الوضع يجعل الشرق أردنيين غير مستعدين للمخاطرة بتهديد الملكية لما في ذلك من تهديد لمصالحهم ووضعهم في المجتمع والدولة. وقد بادرت النخبة الحاكمة في الأردن والجزائر ببعض الإجراءات الإصلاحية التي مازالت أقل من أن تمس هياكل السلطة في المجتمع, لكنها تبدو كافية حتي الآن علي الأقل للحد من القدرة التعبوية للمعارضة. فقط في المغرب كانت الإصلاحات المطروحة من جانب النخبة الحاكمة عميقة بما يكفي لإحداث تغيير حقيقي في هياكل السلطة السياسية. ومع أن الأوضاع الاجتماعية في المغرب تنطوي علي كثير من التهميش واحتكار الثروة, إلا أن البناء السياسي المؤسسي والحزبي في المملكة المغربية وفر لها مؤسسات سياسية تمنع ظهور حالة ثورية, وأبقي علي مطالب الإصلاح موضوعا للتفاوض داخل المؤسسات وبينها, بدءا من مؤسسة القصر والأحزاب انتهاء بمؤسسة البرلمان غير الشكلي الموجود هناك منذ أكثر من خمسة عشر عاما عندما تم تنفيذ الموجة الأولي من إصلاحات سياسية ذات محتوي وأكثر من شكلية. فبلاد العرب علي قدر تشابهها فإنها تنطوي علي الكثير من الاختلافات. وبينما تلعب الطبقات الاجتماعية دورا أكبر في تحديد مسار التفاعلات الجارية في بعض المجتمعات, فإن تكوينات أكثر أولية مثل القبيلة والطائفة تلعب الدور الرئيس في بلاد أخري. وبينما عانت بعض بلاد العرب من تصحر سياسي كامل فرض علي التكوينات الاجتماعية فيها الدخول للمجال السياسي في حالتها الخام الأقل تهذيبا وصقلا, فإن مؤسسات السياسة مازال لها بعض دور في بلاد أخري بما أتاح للإصلاح في هذه البلاد فرصة. المزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد