قد يحدث أن يسمع المرء عن أشياء غريبة أو شائعات مريبة, فالقاهرة الآن مرتع خصب للشائعات والأقاويل والمخاوف والمطامع, ولا يكاد يمضي يوم دون شائعة جديدة أو حكاية غريبة أو استعراض قوة.. لكن لم أسمع بعبارة أغرب مما قرأته في عنوان بالبنط العريض منشور بالصحف خلال الأيام الماضية, يقول: الخضيري: تفجير خط تصدير الغاز المصري لإسرائيل حق مشروع, فلا يعقل أن تضاء إسرائيل بالغاز والمواطن المصري يموت في طابور أنابيب البوتاجاز! عبارة مدهشة لا تقل خطورة عن العبارات التي آمن بها نفر منا في الثمانينيات من القرن الماضي, وقتلوا الرئيس أنور السادات عمدا مع سبق الإصرار والترصد, وفي ظنهم أنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله. لكن أغرب ما فيها أنها منسوبة إلي المستشار محمود الخضيري نائب رئيس محكمة النقض السابق, وقد قالها في ندوة نظمتها نقابة الصحفيين عن القضاء بين الاستقلالية والتبعية. ومن المستحيل أن يصدق المرء أن مثل هذه العبارة يمكن أن تصدر عن قاض, فالقاضي ليس حكما عادلا فحسب, بل هو ضمير القانون الذي يحكم به علي من يلوذون بقضائه, فهل يعقل أن يحرض قاض الناس علي دهس القانون والخروج عليه؟! توقفت أمام العبارة كثيرا, الحيرة تكاد تسلبني القدرة علي التفكير, بل ضربتني العبارة بموجة من الاحباط, فهي دون قصد من سيادة المستشار الخضيري تشي بحجم الأزمة التي تعيشها مصر, وهي أزمة لا تقتصر فقط علي تغيير نظام فاسد أشبه بثوب قديم ضيق ومهترئ يوسع من الثغرات في بنية المجتمع أكثر مما يعالجها, ليحل محله نظام جديد يحلق بأجنحة العدالة والديمقراطية والحرية! الأزمة تتجاوز النظام إلي الإنسان وعقله..صحيح أن النظام هو الذي صنع أزمة الإنسان وعقله, وكان الأستاذ محمد حسنين هيكل محقا حين رصدها ذات مرة في جملة شديدة البلاغة شيئا في الدماغ تعطل.. لكن إصلاح النظام لن يحدث إلا بعقول سليمة قوية وعفية, متحررة من موروثات الماضي, والموروث غير التراث, الموروث ينقل إلينا من السلف دون تنقية وتمحيص, فيأتي محملا بالصالح والطالح, أما التراث فهو الموروث بعد أن يعمل فيه العقل والتفكير والمنهج, فيصفيه من الزلل والأفكار الفاسدة التي لحقت به في عصور الانحطاط. نعود إلي العبارة المدهشة وهي مكونة من شقين.. الأول: هو التحريض علي تفجير خط الغاز المصري إلي إسرائيل. والثاني: هو المبرر أو السبب, وفي الحقيقة هو سبب مقنع جدا..هل يعقل أن نصدر غازا إلي إسرائيل ومواطنونا المصريون يتقاتلون في الطوابير بالساعات من أجل الحصول علي أنبوبة بوتاجاز؟! لكن المشكلة أنه لا علاقة أصلا بين فعل التحريض علي التخريب بأنه حق مشروع, وبين سبب وقوف المصريين أو قتالهم اليومي للحصول علي البوتاجاز.. والأهم: إذا كان قرار تصدر الغاز إلي إسرائيل خاطئا أو خطيئة, مرفوضا أو جريمة, هل علاجه هو دفع الناس إلي العنف بتفجير خط التوصيل؟! المسألة فعلا معقدة..فنحن نتحدث عن إسرائيل, العدو التاريخي لنا, حتي لو وقعنا معها معاهدة سلام, فمازالت الأرض الفلسطينية والعربية مغتصبة والعدوان مستمرا, ومازالت مدينة القدس تحت الاحتلال.. لكن ليس هكذا تورد الأبل, ونخلط الأوراق بين العنف والمرفوض.. ومن غير المعقول أن أي وضع نرفضه نحرض الناس علي العنف ضده, فالمجتمعات الحديثة المتحضرة لديها من الطرق والوسائل السلمية ما تغير به المرفوض أو المعترض عليه, خاصة أن العنف له ثمن, ونحن الذين سندفع الثمن وليس الآخرين.. والأكثر دهشة أن القاضي ملزم بتطبيق القانون, سواء كان يقبل المواد التي يحكم بها أو يرفضها..فالمواطن يتصرف وفق القانون المعمول به, وليس وفق ما يؤمن به القاضي أو لا يؤمن به, ولا يجوز أن يفاجئه القاضي بتطبيق قواعد أو مواد التي لم تكتسب شرعية التشريع حسب الأصول التي تصدر بها في الدولة. وقطعا طوابير المصريين علي أنابيب البوتاجاز ليست بسبب تصدير الغاز المصري لا إلي إسرائيل ولا إلي أسبانيا أو الأردن, وإنما لعجز في الإدارة وفشل في التخطيط والعمل..الخ. فنحن نقف في طوابير العيش, وبنزين80 أوكتين, وطابور المعاشات, وشقق الإسكان الشعبي, وحج القرعة..الخ, ونحن لا نصدر العيش ولا البنزين ولا المعاشات ولا غيرها. لا أريد أن أطيل في شرح العلاقة الغائبة, بين التحريض علي العنف وتفجير خط توصيل الغاز إلي إسرائيل, ومعناة المصريين في طابور أنابيب البوتاجاز, فهي مجرد وسيلة لفكرة أعمق كثيرا, وهي حالة التفكير المصرية.. وقد يكون رأي المستشار الخضيري في أن التفجير حق مشروع دون أن يقول لنا ضد من, هو مجرد رأي شخصي, لكن لكون المستشار الخضيري شخصية عامة بحكم تفاعلاته المهمة في السنوات الأخيرة في هموم الوطن, فلا يمكن أن يمر هذا الرأي مرور الكرام, ويجب أن نتوقف عنده ونختبر صحته وتأثيره علي حركة المجتمع لو أن الناس مالت إليه وأخذ فصيل منها عهدا علي نفسه بتنفيذه, فكيف يكون حال المجتمع في هذه الحالة.. وإذا كان قاض في حجم نائب رئيس محكمة نقض سابق يتبني مثل هذا الرأي الخطير..يخاطب به مشاعر الناس لا عقولهم, غضب الناس لا حكمتهم, فما بالك بالناس العاديين في الشارع؟! هذا قد يفسر لنا حالة الأعصاب المشدودة وحالة الالتهاب التي نعاني منها في مصر الآن. وأتصور أن بعض الهدوء والتفكير العلمي المنظم قد يقصر علينا المسافات إلي مصر المستقبل دون أن ندفع ثمنا باهظا. المزيد من مقالات نبيل عمر