حين صافحت عيوني عنوان هذا الكتاب, ضحكت في خيالي لمن استطاع اختراق الضباب الأبيض المحيط بأعماق كل حين ينظر إلي المستقبل أو يريد استيضاح بعض من تفاصيل الماضي. ذلك أن الحاضر دائما هو لحظة هاربة بين مستقبل نقتحمه أو يقتحمنا, أو ماض لم ندرسه جيدا ونريد معرفة بعض من تفاصيله. أما إن كنا من المدربين علي أن نعيش كل لحظات حياتنا بانتباه دقيق لقيمة كل ثانية من ثواني الحاضر, ومدققين فيما يجري أمامنا من أحداث, ومدربين لأعيننا علي أن تضم المشهد الذي أمامنا بتفاصيل المكان والشخوص, فتلك موهبة يملكها عدد قليل من البشر, خصوصا من خاضوا القتال وعاشوا في مسارح عمليات الحرب, أما أهل الحياة المدنية فنادرا ما نجد فيهم من يعتني بتلك المهمة التي يمكن أن تجعل تفاصيل الحاضر كلها مسجلة في رأسه إلي أن يحين وقت تأملها واستدعائها. وهو مايحدث لكبار الروائيين وكتاب السيناريو المتميزين, وعادة ما يضيف هؤلاء إلي ما يختزنونه في خبرات ومواقف سابقة كي يواصلوا تأليف أعمالهم الروائية بما يريدون خلقه من وقائع تنقل مايشاءونه من أفكار ويعبرون عما يقع في حياة شخصياتهم المخترعة من أحداث. ومنذ زمن بعيد أثار انتباهي دائما فن التساؤل, فهو الفن المتطور دائما في مخيلة الفنانين, ويشاركهم في ذلك العلماء أصحاب القدرة علي مراقبة تفاصيل صغيرة لاكتشاف حقائق كبيرة. وغالبا ما يصل الفنان إلي مرحلة يظل دائرا فيها حول مجموعة من الأسئلة البسيطة التي تملك إجابات مختلفة في مرة يبحث فيها هذا الفنان عن إجابات لتلك الأسئلة البسيطة, ولن أنسي ما حييت كيف ابتسم لي واحد من أساتذتي العظام وهو الشاعر صلاح عبدالصبور, حين قال لي في معرض سكندري للفنان سيف وانلي: كل ما أخشاه أن يأتي جيل لايعي قيمة الفن التشكيلي أو الموسيقي الكلاسيكية, وتستغرقه فنون الإعلانات لأن من يتأمل اللوحة المعلقة علي جدار صالة العرض أو المتحف, هو كائن يحاول الخروج من دائرة اللحظة الراهنة التي تزدحم بتوترات وتشتتات, ويستطيع عبر الاستمتاع بالفن أن يستعيد رؤية نفسه نقية من خلال ألوان اللوحة أو ماتعبر عنه, أما الحرص علي الموسيقي الكلاسيكية فليس من أجل ادعاء فضل الغرب لأنه تقدم علينا بتوفير المناخ للمواهب الموسيقية العملاقة أن تظهر به في ظروف تاريخية لم تكن لدينا مثلها, وعندما كان لدينا درجة من الوفرة المصحوبة بامكانات الحضارة تقدم الشعر الذي هو موسيقي العرب الأولي, وعلي ذلك فتقدم الغرب موسيقيا يمكن أن يهدينا قدرة علي قبول أنفسنا بعد إعادة ترتيبها فور ترك النفس لتغسلها تلك الموسيقي دون أن نسأل عن معان فيها, في الروح توجد إيقاعات كثيرة لن تجد كلمات تعبر عنها, ويمكن أن تعبر عنها اللوحة أو السيمفونية. وليس حقيقيا أن الفنون الرفيعة وجدت للأغنياء المقتدرين المتزاحمين علي عرض أناقتهم في زحام الأوبرا, لأن كبار العازفين في العالم يؤمنون بأن هناك في أعلي كراسي الأدوار العالية قد يوجد مستمع أفضل بكثير من عديد من يحتلون الصفوف الأولي أو كراسي البنوار وغيرها من المقاعد المتميزة, تماما كما يحرص الفنان المصور للوحات علي الشخص العادي الذي يتوقف أمام اللوحة ليستمتع بها, أكثر مما يحرص الشخص المتسائل عن قيمة اللوحة التي يفكر في اقتنائها, لأن الاقتناء قد يحقق للفنان بعضا من النقود تزيد أو تقل, ولكنها تذوب بعد فترة في تكلفة الحياة اليومية, أما المتفرج الذي جاء ليستمتع بالفن, فهو القادر علي أن يحفظ اللوحة. في خياله دون أن تبهت, ولذلك نجد كثيرا من الفنانين الكبار يهدون لوحاتهم إلي المتاحف من أجل المتفرج العادي الذي يأتي ليعيد اكتشاف جمال اللوحة في كل مرة يراها. ونفس المسألة بالنسبة للعلماء, فهم يملكون إشراقاتهم الابداعية التي تصل بهم إلي إهداء البشرية إنجازاتهم الكبيرة. وسألت الشاعر الكبير يومها: ولكن أردنا أم لم نرد فزحام الحياة قد يجعل الناس غير مقبلة علي سماع الموسيقي أو مشاهدة اللوحات, أو حتي الثقة في العلماء, ناهيك عن تدليلهم كما يحدث في الدول الكبري فأجابني: من يفقد هذا الحق الذي يضمن لأي إنسان لحظة راحة بعيدة عن المهدئات والمطمئنات التي يكتبها أطباء النفس المعاصرون, من يفقد هذا الحق يلقي بنفسه في زحام اختلاط الماضي بالحاضر بالمستقبل, فتصير حياته ضجيجا وتغمره كآبة الآلية, وينسي أهم ما يميز الانسان كفرد يمكنه أن يطور حياته, وهو قدرته علي أن يسأل في كل لحظة السؤال المناسب في الموقف المناسب, لأن حياته تصبح ضجيجا في ضجيج. والذي ذكرني بهذا الحوار مع أستاذي صلاح عبدالصبور هو صدور كتاب طرح الأسئلة المناسبة مرشد للتفكير الناقد من تأليف نيل براون أستاذ الفلسفة والاقتصاد بالجامعات الأمريكية, وشاركه في تأليف الكتاب ستيورات كيلي أستاذ علم النفس بالجامعات الأمريكية وترجمة د. محمد أحمد السيد ود. نجيب الحصادي, وصدر عن المركز القومي للترجمة. وجين تقرأ الكتاب بدقة ستجد نفسك أمام حقائق بديهية ننساها جميعا, بل قد تدمر أساليب التعليم في بلادنا العربية القدرة علي امتلاك تلك الحقائق البديهية التي تمكننا من نقد ما يقدم لنا من معلومات, حيث تغمرنا خلال التعليم وخلال رحلات الحياة اليومية: ضرورة الاستسلام كقطيع لما هو موجود في كتب الدراسة سواء أكانت دراسة في التعليم الابتدائي والاعدادي والثانوي, أو دراسة جامعية, فنحن نقوم بتبليط الوجدان أثناء العملية التعليمية وكأننا نقوم برصف العقول لتصير آلية, دون أن نقوم بإتقان رصف الطرق التي نشكو في أحيان كثيرة من سوء رصفها, وكل ذلك لأننا ننسي ببساطة أن كل رأي يحتاج إلي نقيضه كي نضمن الوصول إلي قناعة بتجويد ما نعمل, فننظر إلي الماضي لا بالتقديس ولكن بالتمييز بين ما دار فيه من سلبيات وما أضاف من إيجابيات, وننظر إلي الحاضر لا بالسخط الذي يحولنا إلي قرب من دم يغلي دون قدرة علي التمييز بين ما يحمله هذا الحاضر من إيجابيات أو سلبيات, وننظر إلي المستقبل كي نري فيه إمكانية تطوير أعمالنا مستفيدين مما دار في الماضي ومما يقدمه الحاضر من إمكانات لنصنع هذا المستقبل. فعندما نتقن طرح السؤال المناسب دون أن يشعر بعضنا أنه أهين لمجرد أنه سمع السؤال, وعندما نتعلم كيف نجد في الرأي ونقيضه ما يضيف لنا من بصيرة للاختيار هنا يمكننا أن نغزل المستقبل بإيقاعات عازف بيانو متميز ومتمكن أو بفرشاة فنان قادر علي أن يضع دفقات روحه بالألوان علي قماش اللوحة, ولسوف نفعل ذلك حتي ولو كانت الكروب تحاصرنا من جهات عدة, لأن السؤال المناسب يفتح دائما ثغرة في جدار الواقع والوقائع لنحصل علي نور داخلي يكشف لنا الطريق.