إذا كانت فتاوي وأفكار أحمد بن تيمية هي المصدر الرئيسي الذي تستند إليه معظم إن لم يكن كل الفرق التي ترفع لافتة الإسلام وتتشدد في مواقفها ومسلكها تجاه الآخر غير المسلم, وإذا كان تراث حسن البنا هو المصدر الأساسي الذي تستقي منه فرقة الإخوان المسلمين أفكارها ومنهجها ومسلكها تجاه الآخر غير المسلم بل والمسلم أيضا. كما سبق وحاولت أن أبين في مقالين سابقين; فإن التراث الأصولي الديني والفقهي الإسلامي حافل بنماذج أخري توالي وجودها عبر الحقب إلي حقبتنا المعاصرة تذهب غير مذهب ابن تيمية والبنا وتتميز بالفهم الدقيق لمقاصد الدين, لذا تبدو أكثر يسرا وأعمق تسامحا, ومع كثرة تلك النماذج ووفرة إنتاجها إلا أننا وللأسف نجد الغلو والتطرف ومصادرة الآخر أو القبول به وفق شروط معينة هو السائد والغالب عند ما أطلق عليه تيار الإسلام السياسي بفرقه المختلفة, التي وصلت خلال الثمانينيات إلي ما يقرب من85 فرقة! وهذه الفرق ليست وحدها في الساحة السياسية المصرية والعربية والدولية, بل إن لها ما يماثلها منتسبا إلي أديان أخري, سماوية وغير سماوية, ولدي كل منها مسوغاته العقيدية والتاريخية التي يتشدد بها ويتطرف في عدائه للآخر, الذي علي غير دينه وكذلك الذي من دينه. هنا في مصر يدين مصريون بالمسيحية ويتوزعون علي عدة مذاهب أو فرق بالمعني السائد في السياق التاريخي لهذا النوع من الظواهر الاجتماعية. ومن العلاقات البينية داخل مجتمع الدين المسيحي الواحد, إلي العلاقة مع الآخر غير المسيحي في المجتمع ككل, فإننا لا نجد تراثا فقهيا مسيحيا كالذي نجده عند ابن تيمية وحسن البنا ومن نحا نحوهما, لأن المسيحية لم تثمر فقها مماثلا, وإنما هناك تراث المجامع المسكونية المتعاقبة وقراراتها التي ترقي إلي مستوي النص الإنجيلي في الإلزام. إن كثيرا من المسيحيين, إكليروسا وشعبا, لا يلتفتون إلي ما جاء في العهد القديم بسفر التكوين عن إسماعيل, وكيف أن العهد القديم بشر إبراهيم عليه السلام مرة, وبشر هاجر أم إسماعيل مرة أخري بأن طفلهما سيصبح أمة عظيمة.( تكوين, الإصحاح الحادي والعشرون). ثم يأتي الموقف الأكثر تشددا, وهو التعامل مع السياق التاريخي للفتح أو للغزو سمه كما شئت العربي لمصر لنجد أنه عند كثير من المثقفين والإكليروس والناس المصريين الذين يدينون بالمسيحية كارثة الكوارث, والمندبة التي لا تتوقف, وفي هذا تفاصيل كثيرة. إنها تفاصيل تتحدث عن الغزو الصحراوي للبلاد الزراعية, ومن ثم انتشار قيم وأفكار وعادات وتقاليد البداوة الخشنة الوحشية في البلاد المتحضرة المتمدينة, التي تضرب جذورها الحضارية والثقافية في أعماق أعماق التاريخ! وتتحدث عن عدوان غاشم استأصل اللغة الوطنية, ولوث العقيدة الدينية, وغير اسم البلاد واستباح كل شيء علي نحو غير مسبوق! ومن لحظة دخول العرب وخلال القرون المتوالية هناك محطات للعنف يتوقف عندها بعض المسيحيين ليصبح السياق كله عندهم كالحا ودمويا. علي جانب آخر, كانت كنيسة الإسكندرية, منذ نشأتها, قد عرفت جدالا لاهوتيا عميقا, وصل في بعض الأوقات لدرجة الاشتباكات العنيفة, وكان المجال الأساسي للاختلاف وللاشتباك هو طبيعة السيد المسيح, له المجد, واحتدم الأمر أكثر بين اتجاهين, أحدهما يذهب إلي أن السيد, له المجد, ذو طبيعة إلهية خالصة, أي أنه هو الله, ويذهب الآخر إلي أنه بشر فيه ألوهية, واستمر الجدال والاشتباك حادا عنيفا حتي بعد انعقاد المجمع المسكوني في نيقية بآسيا الصغري, وبعد دخول الإمبراطور قسطنطين وأمه هيلانة للمسيحية, وفق المذهب الآخر, مذهب الطبيعة البشرية. ثم إننا نلاحظ أن رسائل النبي محمد صلي الله عليه وسلم إلي ملوك البلاد يدعوهم فيها إلي الإسلام بصرف النظر عن صحة وجود الرسائل ونسبتها إليه تتضمن رسالة إلي هرقل عظيم الروم يقول له فيها بعد الديباجة أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين, فإن لم تسلم فعليك إثم الإريسيين أي الأريوسيين! وجملة ما أود قوله هو أن الساحة التي تفاعلت فيها المسيحية بين أتباعها أنفسهم, ثم بينهم وبين غير المسيحيين لم تخل من غلو ومن تطرف, وأحيانا من نفي للآخر والنظر إليه باعتباره هرطقة أو كفرا يتعين قتاله. المزيد من مقالات أحمد الجمال