1 الأديان كافة في تعددها وتنوعها, لها كتاب مقدس, مرجعيتها للدنيا والآخرة يصوغ وجدانها, يوجه ثقافتها, ويرسخ تقاليدها وتراثها, وينسي البشر أحيانا ان هناك كتابا مقدسا لاتملكه الآديان بل تشير اليه وتتأمل فيه, هو الطبيعة والكون والوجود. يقرأه الأعمي والبصير, يتلمسه الأصم والأبكم, يحس به الصغير والكبير, المثقف والأمي, إنه كتاب مفتوح لايسيطر عليه أحد ولايستطيع أن يمنع انسانا عن قراءته والسفر في أسراره وخباياه الطبيعية كتاب مقدس, يزدحم بالآيات والمعجزات التي تسبح الخالق دون كلل أو رياء في صمتها صلاة, في حركتها صلاة, في تدفقها وتجددها صلاة. ومن معجزات هذه الطبيعة مشهدان فيهما جمال يسحر اللب ويفجر طاقات الابداع, مشهد قبل الشروق, والليل يلملم أطرافه في سكون, ليس هو النهار الباسم المتوهج وليس هو الليل المظلم المرعب, إنها مساحة من الزمن يغلب عليها الضباب والمجهول, كأنها مرحلة انتقال أو انتظار. ومشهد الغروب حين تنسحب الشمس في حركة أزلية, تصبغ الوجود بألوان البهجة الساطعة قبل أن تكتسي بلون رمادي حزين, إنها مساحة أخري من الزمن ليست ليلا, كما أنها ليست نهارا بل هي رحلة غامضة, لا يملك الإنسان الا ان ينشده تبارك الخالق المبدع. **** 2 أزعم ان العقل العربي يمر منذ سنوات بهذه المساحة الغامضة فهو لايمضي الي شروق العلم والحضارة, والرغبة في التنمية والرقي لم يبلغها بعد, فظلام ليل العصور الوسطي لم يقهر, ولم يهزم, ولم يلملم أذياله ما زال مطبقا علي هذا العقل, مقيدا للوجدان, والإنسان العربي لم يزل يغط في نوم عميق لم تداعب شمس النهار عينيه, أو قل مازالت الثقافة العربية من الخليج الي المحيط بين غروب قرن مضي وبين ليل مقبل يطوف بالعقل العربي ليدخله في نوم أعمق, وأحلام بلهاء, وأوهام الخوف وكوابيس الأساطير.. نسمع كثيرا عن الأمن البوليسي أو العسكري, أو الأمن الاقتصادي والمائي, ولايكاد يذكر أحد ان هناك مايسمي بالأمن الثقافي, مع أن الأمر جد خطير, فبدون الأمن الثقافي لايستقيم الأمن الوطني أو العسكري أو الاقتصادي, بل تظل الشعوب تنزف من قضايا مزقت أمنها وسلامها فاشتد عنت الحياة, وقست أمور العيش, وبهت الرجاء في مستقبل واعد مفتوح ذلك لأن الأمن الثقافي هو القاعدة الصلبة لبناء مجتمع سوي هو نقطة الانطلاق لتحقيق الرؤي والأحلام, وبدون الأمن الثقافي يسود الجهل ويعلو صوت الغوغائية وتعبث الفوضي في عقول البشر. الأمن الثقافي هو أن تؤمن مستقبل الانسان منذ حضانته وطفولته بثقافة انسانية شاملة, لايقع أسيرا لثقافته المحلية والتقليدية, لقد أصبح الانسان شاء أم أبي مواطنا عالميا, فهو ان لم يسافر الي بلاد الدنيا جاءت اليه في عقر داره بل حتي في حجرة النوم بعد أن يسر له العلم جسور الاتصال والمعرفة, ولم يعد المؤمن بدينه مؤمنا محليا له شرائعه وطقوسه, بل أضحي مؤمنا انسانيا يختلط بأصحاب الأديان كافة, يشاركهم السراء والضراء وأي انسان لم يهتز ولم يحزن لما أصاب أبعد جزر العالم عن بلادنا أقصد جزيرة هاييتي, وقل الأمر ذاته عن الانسان المثقف, فليس بمثقف من سجن عقله في ثقافة محدودة والعالم من حوله يمتد ويتوسع ثقافيا وعلميا, لاحدود تقيده, ولامسافات تسد أذنيه, ان مايحدث في دنيا الثقافة ليس غزوا أو احتلالا, بل هو روح علمي وحضاري يتسرب دون استئذان ولن يكون الزمن بعيدا حتي تصوغ العلوم والحضارة عقلا انسانيا ووجدانا انسانيا يربط بين البشر جميعا, كما حدث في حياة الناس من تقارب في المآكل والملبس والمتع.. 3 ان من أروع الأدلة علي وجود الخالق العظيم مازرعه في نسيج الانسان من قوة الادراك لذاته لماضيه وحاضره ومستقبله من جهة وادراكه لما حوله من إخوته البشر وسائر الكائنات, ففي تلك الطاقة وحدة بين أبناء البشر, وبدونهم تصبح الكرة الأرضية مجرد كوكب فارغ هذا الإدراك للإنسان الأخر هو جسر تبادل الخبرات والثقافة, واتصال التقدم والترقي, كأن الله الذي خلق ضمير كل شخص خلق ايضا الضمير الجماعي أو الحس الانسان الذي يربط بين بني الانسان, ولو تأملنا مسيرتهم عبر القرون الطويلة, برغم النوع والتعدد والفروق الاجتماعية والاقتصادية والصراعات والحروب, فان للبشر عقلا جماعيا يدرك ضرورة الترابط والتضامن مما يفسر تقارب البشر المتزايد والمستمر, وإحساسهم المتنامي بأنهم أسرة واحدة, وتبدو الثقافة لشعب أو مجتمع عنصرا جوهريا في تربية وتقوية هذا العقل الجماعي الانساني, وهذا الأمر يلزم الحكومات وأهل الصفوة والقادة من المفكرين والعقلاء علي الحرص علي الأمن الثقافي للمجتمع حتي لا يسقط في قاع تطرف أو فكر ضال وحتي لايستحوذ عليه فن مبتذل أو يسوده التخلف والجهل. لقد كان القلق الديني ان صح التعبير هو سمة العصور الماضية فقامت الحروب الدينية وراح الضحايا لهذا الصراع الذي أشعله الحماس الديني وتخيل البعض إمكانية فرض عقيدة واحدة علي المجتمع البشري ولو بالقوة والإكراه, وتبدل القلق الديني بعد الانتصارات المذهلة في مجال العلوم والأسلحة فأصبح القلق الانساني هو الرعب من مستقبل تحيط به الأخطار العلمية المتدفقة وبسبب هذا القلق يفقد الشخص البشري القدرة علي الحفاظ علي القيم الأخلاقية وتوازنه الديني والانساني, كما يؤكد هذا القلق حاجة الانسان لأخيه الانسان وعلي صحوة ما ذكرناه عن العقل الجماعي. **** 4 ما العمل لإقامة الأمن الثقافي للإنسان العربي وللعقل المصري, إنها رسالة تجيب عن السؤال ماذا نريد من الانسان المصري أي نوع من الثقافة تقدمها له وكيف نصيغ عقله؟؟ أزعم انها المهمة الأولي للدولة والرسالة العظمي للمسئولين عن التعليم والإعلام, والبداية منذ الحضانة, والابتدائي, والاعدادي والجامعة, فغاية هذه المؤسسات بناء الشخص لاسكب المعلومات, وحفظ النصوص وترديد النظريات, ولكي نحقق ذلك أشير الي نقاط ثلاث: أ أن تكون الثقافة منذ البداية ذات اتجاه شمولي, إنساني, ليدرك الطفل والصبي والشاب والفتاة أنه مواطن عالمي له جنسية مصرية لا تعارض بينهما بل تكاملا وترابطا نحتاج ان تكون ثقافة أجيالنا الصاعدة مرتبطة بثقافات العالم بحضارة عصرهم, جذورهم تظل ثابتة في تراثهم وإيمانهم لكن أفقهم واسع يدرك بقدر عمره أنه عضو في مجتمع انساني متنوع متعدد أما كيف نحقق ذلك فالأمر لعلماء ومفكرين متخصصين وليتنا نستعين بعلمائنا العباقرة الذين يسهمون في تقدم العالم والحضارة أمثال: فاروق الباز وأحمد زويل مجدي يعقوب وأبناء هذه الأرض الطيبة لايسع المجال لذكر أسمائهم التي تتفخر بها. ب لايمكن أن نقيم هذا الأمن الثقافي الا اذا انتبهنا الي مايقدم من آداب وفنون ولك ان تشهد الساحة العقلية للوطن العربي والمصري بنوع خاص وتسأل: من يقود الرأي العام؟ من الذي يصيغ وجدان شعبنا وأحلامه وآماله؟ من الذي يغرس في أعماقه قيما بعيدة كل البعد عن روح الآديان وصفائها وعن سن العلوم؟ إنها لكارثة حقا ان نترك وجدان الشعب والأغلبية الساحقة تتشرب بما هو ليس جميلا, ومن الذي يغربل مايكتب ومايقال وماتتغني به حناجر ليل نهار لايمت للآدب أو للفن بصلة؟ أننا نعيش مرحلة ضبابية في ثقافتنا العربية التي أشرت اليها في بداية المقال فالساحة الفكرية بلا حدود أو روابط والساحة الفنية تعيش نكسة حقيقية فمن يوقظ الوعي بالجمال, والبهاء, والنور, والمحبة؟ إن مصرنا غنية كل الغني بعقول أبنائها وبناتها لكن أصواتهم تضيع في صخب السطحية والغوغائية وهنا يأتي دور الأدباء وأهل الفن والعلماء. ج رسالة التنوير لإقامة الأمن الثقافي هي رسالة هؤلاء وأولئك فلم تنهض أمة الا بعقول أبنائها, لم تتقدم الأوطان بما ملكت من ثروة اقتصادية فحسب, فالمال بدون علم وعقل صنم, والسياسة بدون علم وعقل أكاذيب, والآداب والفنون بدون قيم أخلاقية مصدرها تراثنا الديني والإنساني, مجرد أدوات للتسلية الضائعة والتقوقع والتغني بأمجاد الماضي قتل للإبداع, هذه مصر بين يدي أبنائها إنهم حماة أمنها الداخلي والخارجي وحماة أمنها الثقافي فلنخرج من المنطقة الضبابية ولتشرق شمس الابداع. المزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته