بمجرد سماعه أن عناصر من اللبنانيين المناصرين لحزب الله بالدنمارك سيتظاهرون لتأييد النظام السوري في قلب العاصمة كوبنهاجن, بادر بإبلاغ الشرطة عزمه حشد مظاهرة مضادة لتأييد الشعب السوري الطامح للحرية. فما كان من السلطات إلا أن أرسلت قوات للفصل بين المظاهرتين لمنع أي اشتباكات. صاحب المظاهرة المضادة هو الدنماركي من أصل مصري محمود عوض مدير مركز الدراسات الإسلامية في كوبنهاجن, والذي هاجر لبلاد الشمال منذ40 عاما. إذا اعتبرنا ذلك المشهد يجسد جانبا من الديمقراطية الدنماراكية, فإنه يجب استعراض مشهد ثان استحضره الدكتور فؤاد البرازي رئيس الرابطة الإسلامية بالدنمارك الذي نظم مظاهرة حاشد بمقاييس ذلك البلد الذي لا يتجاوز تعداده خمسة ملايين, بالإضافة إلي مقياس تعداد مسلميه المحدود, حيث ضمت المظاهرة10 آلاف, وذلك استنكارا للرسوم المسيئة للرسول الأكرم. هذان المشهدان استحضرتهما علي الفور عندما فوجئت بمشهد مختلف تماما في مقاصده, ألا وهو تلك المظاهرة الضخمة التي ابتلعتني في قلب كوبنهاجن, والتي انتمي المشاركون بها لمختلف الفئات العمرية, وذلك لمطالبة الحكومة بتقنين بيع وتعاطي مخدر الحشيش, والأغرب أن سيارات الشرطة كانت تتابع المظاهرة لتأمينها! ثلاثة مشاهد من أقصي اليمين وآخري تجنح إلي أقصي اليسار, إلا أن المسافات الشاسعة بينهم تعكس طبيعة مجتمع يتسع صدره لكافة الآراء, كما تعكس نفس هذه المسافة روح دولة تكفل حرية التعبير للجميع حتي لو كانوا من يتعاطون المخدرات, ففي النهاية هم بشر ولهم حقوق. وبالطبع, فإن ذلك ليس دعوة لمتعاطي مخدر الحشيش للتظاهر والمطالبة بإباحته, ولكنه نموذج واضح لما يجب أن تكون عليه سعة صدر الدولة. وقد تبدو هذه المشاهد بعيدة عن سياق تلك الرحلة التي نظمها الجانب الدنمركي لعدد من الصحفيين العرب من مصر وتونس للاستماع والإسماع عن احتياجات تلك الدول العربية التي نجحت علي وضع أقدامها علي بداية طريق ديمقراطي, إلا أنها في الحقيقة مثلت مؤشرات لما يجب أن تكون عليه الديمقراطية في قادم الأيام في بلادنا. وفي هذا الإطار بدا التأثير الهائل لثورتي مصر وتونس ليس فقط علي الدنماركيين من أصل عربي, وإنما علي المجتمع الدنماركي بأسره شعبا وحكومة. موجنز بلوم مستشار بالخارجية الدنماركية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحدث عن الأهمية التي طالما أولتها بلاده لتلك المنطقة من العالم والتي انعكست علي مضاعفة القضايا التي يغطيها برنامج الشراكة من أجل الحوار والإصلاح الذي بدأ عام2003 بالإضافة إلي استحداث برامج أخري لدعم الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. وأوضح الرجل أن برنامج الشراكة من اجل الحوار والإصلاح الذي بات يغطي المنطقة من المغرب إلي العراق يسعي لصياغة علاقات استراتيجية طويلة المدي تقوم علي أن مصلحة أوروبا تتحقق بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية لهذه المنطقة, وبما يدعم الإصلاحات التي بدأت تشهدها مؤخرا. ويمتد هذا البرنامج زمنيا إلي20 عاما بميزانية سنوية20 مليون دولار, كما أنه يغطي مجالات دعم الحرية وتمكين المرأة ودعم الإعلام وتطويره, وذلك من خلال أولويات مجتمعات الشرق الأوسط وباعتبار أن التغير لابد له أن يأتي من الداخل. وأوضح الرجل أنه بعد ثورتي مصر وتونس وانتفاضة ليبيا, تقرر تخصيص20 مليون دولار لدعم الدول الثلاث في مجال الحكم الرشيد, بالإضافة إلي إنشاء صندوق ب20 مليون دولار لدعم الاستثمار الدنماركي الخاص في مصر. وقد اتفق السيد بلوم مع جميع المسئولين الذين التقيتهم علي أن كلا من المعارضة والحكومة تضاعف اهتمامهما بتكثيف التعاون مع الدول العربية بعدما أثبتت شعوبها سعيها إلي ديمقراطية حقيقية. المؤسسة الدولية لدعم الإعلام هي الذراع غير الحكومية لتطوير وسائل الإعلام بالشرق الأوسط وتعزيز دورها في مراقبة الانتخابات وزيادة التفاهم بين الغرب والشرق بالتقليل من الصور النمطية الخاطئة لدي الجانبين. ومن منظمات ومؤسسات دعم وسائل الإعلام إلي قادر ناصر الدنماركي السوري الأصل عضو البرلمان منذ10 سنوات الذي أكد أن الثورات العربية لم تضاعف من اهتمام الرأي العام الدنماركي بالمنطقة العربية فقط, وإنما تحوز علي مساحات مقدرة من وقت اجتماعات لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان, خاصة فيما يتعلق بمصر. ويؤكد السيد ناصر أن الثورة المصرية ألهمت الدنماركيين من اصل عربي ودفعتهم إلي محاولة دعم التغيرات الحادثة في أوطانهم الأصلية والسعي لبناء جماعات ضغط عربية قوية في الدنمارك. ونعود مرة أخري لابناء الجاليات العربية ممن ليسوا منخرطين في برامج تمولها الحكومة الدنماركية, فنجد المصري ستيني العمر محمود عوض وقد بدأ نشاطا بين أبناء الجالية لصياغة جهد منظم يتيح للمصريين بالمهجر شراء المشروعات في وطنهم وبناء أخري جديدة ونقل التكنولوجيا الحديثة, بالإضافة إلي نقل خبرات في مجال إعادة تأهيل الذين تعرضوا للتعذيب. سفيان ياسين- دنماركي جزائري وناشط بالحزب الإشتراكي الديمقراطي المرشح بقوة بالفوز في الانتخابات القادمة- يشارك في برامج التعاون والتواصل من خلال عضويته في رابطة شباب الحزب وبتمويل من مجلس الشباب الدنماركي. هذا المجلس يسعي من خلال نشاطه الخارجي في مصر وسوريا والمغرب وتونس ولبنان وفلسطين إلي إعلاء صوت الشباب وتشجيعهم علي الانخراط في الحياة السياسية ودعم قدراتهم التفاوضية. الجديد وإن كان ليس مفاجئا أن يقول ياسين إن شباب الدنمارك يتعلم من خلال هذا التعاون من أقرانهم العرب أساليبهم المستحدثة في التعبئة والحشد التي أنجحت ثوراتهم بشكل لم يراه العالم من قبل, وهي الأساليب التي نفتقدها نحن في الغرب, والتي سنستخدمها في الحزب الاشتراكي للفوز بالإنتخابات العامة القادمة! ويضرب ياسين نموذجا بمشروع تقوم به الرابطة لإجراء حوار بين شباب منظمة فتح الفلسطينية ونظرائهم من حزب الكتائب اللبناني, وهو في الحقيقة ما أثار علامات استفهام لدي بقدر ما أثاره من علامات تعجب, حيث سألت ياسين: ألم يكن أولي أن يكون هذا الحوار بين شباب فتح وإخوانهم في حماس؟! جاءت إجابة الشاب بأن القانون الدنماركي يعتبر حماس منظمة إرهابية, وسواء كان ذلك صحيحا أو غير صحيح, فإنه واقع. قلت للشاب إن الأمر مردود عليه بوجود شباب في غزة ليس مرتبطا بحماس, وبالتالي, فإن الحوار بينه وبين شباب فتح بالضفة كان كفيلا بتقريب وجهات النظر وإنهاء القطيعة التي شلت الجسد الفلسطيني علي مدار ست سنوات. الشاهد, أن الجهد الذي تبذله الدنمارك في مجال دعم الشعوب العربية يجب أن يستغل لتحقيق العديد من المقاصد النبيلة التي يستهدفها, ولكن مع الوضع في الاعتبار أنه توجد قضايا قليلة من الصعب في الوقت الراهن علي الدنمارك كجزء أصيل في الكيان الغربي الأوروبي أن تتخطاها مثل ذلك النموذج الفريد والوحيد الخاص بالتعامل مع حماس, وهو الأمر الذي يجب أن ينهض به العرب أنفسهم; بل وأن يبادروا بإصلاح تلك الصورة التي شوهتها إسرائيل وأنظمة عربية لحماس وغيرها من حركات التحرر والتحرير العربية, وهو أقل ما يمكن أن نفعله إزاء أنفسنا ولأنفسنا.