أقرأ وأسمع أحيانا كلاما يكسر الرقبة, كما يقول التعبير الشعبي الليبي, عن هذه الثورات المباركة التي هبت وتهب علي بعض أرجاء الوطن العربي, والتي جاءت لتصنع ربيعا لأرض عرفت فصول الصيف والخريف والشتاء, دون أن تعرف في عصرها الحديث فصل الربيع, فقد اختفي هذا الفصل بعد أن شحت الغيوث, واضمحلت الينابيع, وسكتت العنادل عن الغناء, وتحولت الحدائق إلي يباس وذبول. وفي هذا الكلام العاطل الباطل الذي يكسر الرقاب, مقدار كبير من خطر التشكيك في مصير هذه الثورات, يزرع اليأس في النفوس ويهز ثقة الناس في المستقبل, ويفتش عن أثر الجينات وعوامل الوراثة, منذرا بكارثة أن تصاب هذه الثورات الوليدة بأمراض الماضي وعلل الأنظمة القديمة تتسرب إليها عبر بلازما الدم, وتعيقها عن ممارسة الحياة الطبيعية, فيصبح غد هذه الأقطار التي صنعت الثورة تكرارا لأمسها وإعادة إنتاج لما عرفته من استبداد وطغيان وسفه ولصوصية وإجرام, إلي أن سمعنا صوتا يقول تعليقا عما يحدث في مصر وتحذيرا وتشكيكا في المستقبل بأن مصر قد تصل إلي حالة يقول فيها الناس يايوم من أيام مبارك المخلوع. وإذا كان هذا مايقوله المشككون في ثورة أنجزت مهمتها, وحققت النتائج المبهرة التي استهدفتها, وأزاحت بمسيرة سلمية عبقرية, نظاما متجذرا كالسرطان في حلم ودم الوطن لمدة ثلاثة عقود, وحطمت أسوارا عالية عاتية كانت تمنع تدفق النور والنماء والحرية والحياة لهذا الوطن, وتفتح الطريق باتجاه العبور إلي غد النهضة والتقدم والتجدد الحضاري الذي يتلألأ بأنوار تبهر الأبصار, فماذا سيقول هؤلاء المشككون عن الثورة في ليبيا التي مازالت تخوض حرب تحرير ضد الطاغية وآلته الحربية الإجرامية المرعبة التي لا تحكمها قواعد الأخلاق ولا منازلة الرجال للرجال, وماذا سيقولون عن سوريا واليمن وهما قطران يعيشان نفس المخاض, وأري أن هذا الكلام الذي يسوقه المشككون كلاما بائسا يستخدم منطقا فاشلا فاسدا لأنه ينسي المنطق الجدلي الذي يحكم ثورات الشعوب عبر العصور, ويهمل الصيرورة التاريخية التي تقودها أسس معرفية وفلسفية وحضارية جعلت أزهي العهود الديمقراطية تولد من رحم أعتي وأقسي أنظمة التسلط والطغيان ولننظر إلي معطيات الواقع الدولي حولنا وشواهد التاريخ خلفنا, وماذا حدث لألمانيا بعد النازية وإيطاليا بعد الفاشية ودول أوروبا الشرقية بعد طغيان الأنظمة الشيوعية وأمريكا اللاتينية بعد سقوط بينوشيه وجالتييري وبيرون وغيرهم من جبابرة الطغاة وأصحاب القبضة العسكرية, ولا أدري إن كان من يقول هذا الكلام من أبناء هذه الأقطار العربية التي تصنع ربيعها, كان يعيش تحت هذه الأنظمة الاستبدادية مثلنا, ويعاني معاناتنا ومعاناة أهلنا, فهل تراه سيطلق صرخة فرح تعبر عن إحساسه بالنجاة, أم يبقي جالسا باكيا نادبا حظه, لأن المستقبل يمكن أن يحمل له طاغية جديدا يضع نعله فوق عنقه ويعيد وجهه إلي الرغام, لأن هذا بالضبط ما يفعله المشككون, وأراهم في حقيقة الأمر مثل النائحات المحترفات اللاتي يكرهن رؤية عرس يمتليء بالزغاريد والغناء والبهجة. وسأترك ما يقوله المشككون عن الثورات الأخري, لأهل هذه الثورات يردون عليهم, فربما هناك من يري جانبا إيجابيا في كلام المشككين, يستنهض الهمم للاحتراس والحذر واليقظة في مواجهة القوي التي يمكن أن تتربص شرا بهذه الثورات, وأقصر حديثي عن الثورة الليبية التي أعرف دوافعها وأعرف الأهداف التي تسعي إلي تحقيقها, وقد التحمت بها وأعرتها صوتي ليكون واحدا من الأصوات التي تعبر عن أشواقها وآمالها وطموحاتها, وتصور معاناة ونضالات أهلها وتبشر بانتصارها القريب, وأقول بأنه لا تراودني ذرة شك واحدة في أن فصلا من أكثر فصول التاريخ الليبي ألما وقسوة وإظلاما وإجراما قد انقضي إلي غير رجعة, وأن فصلا جديدا يكتب الآن مرسوما بأزهي ألوان العزة والكرامة والحرية والإبداع والمجد, وأقول نعم لقد كان الثمن باهظا والمعاناة عظيمة والألم كبيرا, ولكن في أتون هذه المعاناة وهذه الآلام وهذه المكابدات تنصهر مكونات الشعب الليبي في سبيكة ذهبية تشع جمالا وبهاء, وفي نار هذه التجربة صارت تذوب وتحترق أحقاد وتناقضات, وتسقط نعرات إثنية ومذهبية وفروق فكرية وأيديولوجية وقبلية, وعلل وأدواء كان يغذيها نظام الاستبداد و الطغيان. ولعلنا نأسف لأن فترة النضال ضد الطاغية قد طالت وإن حجم التضحيات فاق كثيرا ماكان مقدرا لهذه الثورة أن تدفعه, ولكن ذلك كله لم يذهب دون ثمن هو تعزيز اللحمة الوطنية بشكل غير مسبوق عبر هذه المسيرة النضالية, وتحرير الذات الليبية وتطهرها من ميراث الطغيان والاستبداد وفك الارتباط بالمقولات الفاسدة التي سوغ بها حكمه وسقوط شعاراته التي ألبسها لبوس الأيديولوجيات العتيقة بينما كانت مجرد تمويه وخداع وزيف وكذب, كما سقط التعصب الديني الذي لم يكن إلا الوجه الآخر للكبت السياسي وانسداد الآفاق تحت حكم الطاغية, وبدأ أهل البلاد يلتقون عبر هذا المخاض الثوري ويحققون إجماعا وتوافقا حول توابث الدولة الحديثة العصرية التي طلقت طلاقا بائنا أساليب وممارسات عهد الطغيان والاستبداد, حين غاب الدستور وألغي القانون وضاعت مباديء المحاسبة والمساواة بين الناس, فلا عودة إلي تكميم الأفواه وسد الحناجر بالطين وتكبيل أيدي المواطنين وأقدامهم بالسلاسل ليكونوا رقيقا للطاغية, وإنما أحرار في صنع مقدراتهم ومصائرهم وبناء مستقبلهم وتحديد أولويات حياتهم, سواء أمام القانون والاحتكام إلي الدستور الذي يقومون بصياغته بما يتفق وطموحاتهم وما يستجيب لمتطلبات حياتهم, دولة تحدد فيها المسئوليات والمواقع والفصل بين السلطات وعدم الخلط بين الدين والسياسة فالدين لله والوطن للجميع, وتربطها بالعالم أجمع علاقة تفاهم وتفاعل خلاق يعكس علاقة التوتر والصدام والكراهية التي كانت سائدة في عهد الاستبداد, دولة تحفز المواطن علي الإبداع والخلق وتحفظ له حقوقه وتضمن له كرامته وحيثيته التي كان يطمسها النظام وتحدد له واجباته ومسئولياته وتستهل عهدها بمباشرة الإصلاح السياسي والاجتماعي والثقافي ترميما لما تركه عهد الاستبداد من أعطاب. المزيد من مقالات د.أحمد ابراهيم الفقيه