لا يملك المرء إلا أن يحس إحساسا عميقا بالبشر والبهجة حين يري ممثلي التيارات والاتجاهات المختلفة التي يذخر بها المجتمع المصري من الإخوان المسلمين, والسلفيين, والجهاديين وغيرهم. يؤوبون إلي ساحة الأزهر الشريف: يلتمسون منه سلامة المنهج, ويستقون من نبعه: نبل الغاية ورفعة المقصد, وهي جميعا: خصائص تجسد الإسلام الصحيح الذي ارتضاه الله تعالي لهذه الأمة: شرعة ومنهاجا. ولا يملك المرء أيضا إلا أن يحس الإحساس ذاته بأن هذا الإياب يجسد نقطة البداية الصائبة ليقظة حميدة من تلك الاتجاهات علي اختلافها بأن المنهج الأزهري هو وحده الذي يستطيع أن ينفض عن وجه الإسلام النقي ما أصابه من شوائب التعصب والغلظة, وما غشيه من غاشيات التشدد والفرقة, ويعيد إلي صورته: السماحة واليسر في غير ضعف, والقوة والعزيمة في غير عنف. بيد أن هذا كله علي أهميته البالغة لا ينبغي أن يصرف الأنظار عن حقيقة كبري, وهي أن الأزهر الشريف مع حرصه واحتفائه بهذا الإياب الكريم إلا أنه حريص الحرص كله في الآن نفسه علي أن تتجسد أمام الأبصار والبصائر: المقومات الذاتية لمنهجه الفكري: الذي جعل منه( مشيخة الإسلام) بحق, كما جعل منه المرجعية الكبري للمسلمين بصدق, فالحفاظ علي تلك المقومات الذاتية لمنهجه الفكري المتميز هو ما صان شخصيته الفريدة من الذوبان في اتجاه بعينه, أو الإنمياع في تيار بذاته: اتفق معه من اتفق, أو اختلف معه من اختلف!! فذلك المنهج الفكري الأزهري كان وسيظل مستمسكا بالجمع المتبصر بين العقل والشرع, بحيث يكون العقل وفقا للعقيدة الأشعرية الأزهرية هو الطريق القويم للتصديق بالحقائق الجوهرية في الإسلام, عقيدة وشريعة وسلوكا, وبذلك التزم هذا المنهج ضرورة التوافق بين التشريع ومقاصد التشريع, فأصبحت تصرفات المسلم الحياتية دائرة بين التعبد وبين معقولية المعني, وحين غاب هذا المنهج الأزهري في التوافق بين العقل والنقل عن كثير من التيارات التي تعج بها ساحات المجتمع: ذبل دور العقل, وتيبست المعاني الكامنة وراء العبادات, ومن ثم أمست الحرفية والجمود والشكلية والمظاهر الجوفاء والأصوات الزاعقة تدق أبواب المجتمع في قسوة وغلظة, ولو أن المرء قد نفذ إلي أعماق تلك الظواهر البائسة لوجد أن الداء الدفين يكمن في عدائها الباطن لوظيفة العقل المتبصر في فهم النصوص الشرعية, والنفاذ إلي مقاصدها السامية, وغاياتها المثلي. ومن جهة ثانية: فإن المنهج الأزهري سيظل مستمسكا أشد الاستمساك بالفارق الجوهري, والبون الشاسع بين الإيمان والكفر, فلا يرضي هذا المنهج بعقيدته الأشعرية الانسياق السريع إلي الاتهام بالشرك أو الكفر أو الخروج عن الملة, علي حين أن بعض هذه التيارات التي يزدحم بها المجتمع تحت دعوي الانتماء إلي السلف الصالح وتأثرا بأفكار صحرواية وافدة تمتلك من الجرأة ما تجعل به هذا الاتهام الشنيع مرهونا ببعض التصرفات العارضة, أو مرتبطا ببعض الألفاظ التي قد ينطقها من ينطقها بقلب سليم, ومن هنا شاع في مجتمعنا التراشق باتهامات التبديع والتفسيق, والكفر والشرك, وما يتبع ذلك من استباحة الدماء, وانتهاك الحرمات!! ومن جهة ثالثة: فإن المنهج الأزهري: سيظل مستمسكا أشد الاستمساك بأن الفرعيات الفقهية في العبادات والمعاملات والسلوكيات: هي فرعيات خلافية, تخضع لتعدد الرؤي وتباين الاجتهادات, لكن غياب المنهج الأزهري عن بعض تلك التيارات أدي إلي أن تشتعل منابر المسلمين, وساحاتهم ومساجدهم, ثم قنواتهم الفضائية بصيحات التعصب, ودعوات التأثيم والتفسيق, بل وأحيانا بالدعوة إلي الجهاد من أجل الخلاف حول سنة من السنن, أو مظهر من المظاهر!! ومن جهة رابعة: فإن العقل الأزهري سيظل مستمسكا بضرورة عدم الخوض باسم الأزهر أو بدوره أو بمكانته في معترك السياسة المضطرب المائج, فذلك إقحام له في غير ما ينبغي له أن يتوفر عليه ويجاهد في سبيله من مهام جسام, تتمثل في رعاية العلوم الشرعية, والحفاظ علي تراثها الرصين, ثم بث روح التدين في المجتمعات الإسلامية تربية وسلوكا, فمن الخير كل الخير له, أن يرتكز دوره في مجال السياسة علي أن يكون مصححا وموجها بالحكمة والموعظة الحسنة, دون الزج به في مدارات السياسة, ومنحنياتها المتعرجة, ومخاضاتها المتلاطمة, وحساباتها وتوازناتها الآنية, حيث تتعدد وجهات النظر, وتختلف المنطلقات, وتتعارض المصالح وتشتجر الحسابات!! ومن جهة خامسة: فإن العقل الأزهري سيظل مستمسكا برؤيته الرحبة الفسيحة للإسلام بكافة روافده ذات التنوع الخصب; وثقافته ذات الثراء المتدفق, فبذلك أنجب الأزهر من أبنائه: ثمرات مختلفا ألوانها, من الفقهاء والمحدثين, ومن المناطقة والمتكلمين, ومن الشعراء والأدباء, ومن الصوفية والفلاسفة, دون أن يضيق به الصدر عن واحد من تلك الثمرات, أو يصيبه الجفاف والتصحر, فيحكم علي إحداها بالبدعة أو الفسق أو الكفر أو الشرك, أو الخروج عن الملة, أو الانعتاق من الدين!! بل إن العقل الأزهري سيظل مستمسكا بأن حضارة الإسلام الزاهرة وثقافته الإبداعية قد كانت في كثير من الأحيان عاملا فعالا في رفع كلمة الإسلام وفي اتساع رقعته وانتشار راياته في حنايا العقول وخفقات الصدور. ومن جهة أخيرة: فسيظل العقل الأزهري مستمسكا بما بثه الإسلام في نفوس البشر من روح التفاؤل والسماحة واليسر, والإقبال علي الحياة الصافية النقية الطاهرة, وتجنب التزمت والتشدد والتجهم في السلوك والقول والعمل, وسيظل مستمسكا بقوله تعالي يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ومتأسيا بالرسول الأعظم صلي الله عليه وسلم الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى