أثار اقتراح الولاياتالمتحدةالأمريكية بمنح مصر معونات تنموية قدرها150 مليون دولار لدعم الاقتصاد في مرحلة ما بعد ثورة25 يناير, علي أن تكون مشفوعة بشروط سياسية تدعم التحول الديمقراطي, مسألة اضطراب البوصلة الأمريكية تجاه مصر الثورة, وترددها الواضح في دعمها. وقد حرصت الخارجية المصرية علي إبلاغ رفضها للمقترح للسفارة الأمريكية بالقاهرة من خلال خطاب رسمي عاجل يرفض شروط واشنطن لتقديم المساعدة والإجراءات الأحادية والمشروطية من قبل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية, الأمر الذي جاء مفهوما ومتوقعا في ضوء عدة اعتبارات مبدئية ومصلحية. فبحساب الحاجة الاقتصادية, وبالرغم من الصعوبات البالغة للظرف الذي تمر به مصر حاليا, فالحاجة المصرية الهيكلية إلي المعونة الأمريكية وكذلك مقدار المعونة المعروض من قبل الولاياتالمتحدة لا يشكلان ضغطا أو حافزا كافيا يدفع الحكومة المصرية إلي الانصياع للشروط الأمريكية. وفي الظروف الاعتيادية, أي بخلاف الظرف الاستثنائي الذي تمر به مصر منذ الثورة, فإن المعونات الخارجية لا تشكل نسبة مؤثرة من الاقتصاد المصري تجعلها عرضة للضغوط المقترنة بتلك المساعدات. فمصر ليست من الدول التي تتسم بالاعتمادية علي المعونةaid-dependent, وهي تلك الدول التي تشكل فيها المعونة الخارجية أكثر من 10بالمائة من الدخل المحلي الإجمالي. فلم تزد هذه النسبة في مصر عن نصف بالمائة عام2009, ولم تتعد1% علي مدار العقد الأخير وفقا لإحصاءات البنك الدولي. كذلك لم تعان مصر من اعتمادية علي المعونة وفقا للمعيار المذكور علي مدي الثلاثين عاما الماضية سوي لفترة قصيرة في بداية التسعينيات استمرت حوالي ثلاث سنوات, حيث تراوحت تلك النسبة حول 13%. وبالتالي فالسياق العام لعلاقات مصر بالدول المانحة يشير إلي أن المعونة وإن كانت هامة, فإنها ليست مسألة حياة أو موت وفقا للصياغة الحكومية التي تعبر بالفعل عن مقتضي الحال. فباستثناء قهرية الظرف الثوري الذي خلق فجوة تمويلية تقدر بالمليارات, والتي دفعت مصر إلي زيارة واشنطن الشهر الماضي ومطالبة الجانب الأمريكي بإلغاء الديون المصرية المستحقة للولايات المتحدة أو منح مصر مساعدات عاجلة تصل إلي7 مليارات دولار, وهو الطلب الذي رفضته واشنطن بحجة أن الموازنة الأمريكية لا تسمح, وما زالت الأخبار متضاربة حول الموافقة الأمريكية علي إعفاء مصر من حوالي مليار دولار من إجمالي الديون المصرية, فإن الحاجة الهيكلية إلي المعونة في سياق الاقتصاد المصري لا تعطي المانح الأجنبي الفرصة لفرض مشروطيته, وبمفهوم المخالفة لا تجبر الجانب المصري علي الموافقة علي شروط لا يقبل بها تحت ضغط الحاجة. فإذا أضفنا البعد المبدئي المتمثل في تعزيز التوجهات الاستقلالية في السياسة الداخلية والخارجية لمصر الثورة, وأن الثورة بحد ذاتها تعبر عن توجه مصري لتعزيز التحول الديمقراطي دون أية ضغوط خارجية, أصبح قرار الرفض منطقيا. أما علي الجانب الأمريكي, فيثير التوجه الحالي لربط المعونات بحزمة من المشروطية السياسية التي تدفع في اتجاه التحول الديمقراطي العديد من المفارقات والتناقضات. وليس منبع الدهشة والمفارقة هو اتجاه الولاياتالمتحدة إلي فرض شروط خاصة بالمعونة الاقتصادية, فالمشروطية سواء السياسية أو الاقتصادية هي آلية متبعة من قبل معظم المانحين من الدول والمؤسسات المالية الدولية خاصة منذ انتهاء الحرب الباردة, وافتراض أن المعونات الإنمائية هي منحة دون مقابل أو أن هدفها الوحيد هو الدعم الإنمائي للدولة المتلقية هو تصور شديد المثالية. إنما سر المفارقة في العرض الأمريكي يكمن في التوقيت, فالولاياتالمتحدة تتجه لفرض المشروطية السياسية علي مصر في الوقت الذي تتجه فيه ممارسة ذلك النوع من المشروطية إلي التراجع علي المستوي العالمي, وفي مرحلة تميل فيها السياسة المصرية داخليا إلي تعزيز الديمقراطية كخيار وطني, وخارجيا إلي التمسك باستقلاليتها عن التبعية الخارجية, بما يؤكد أن الولاياتالمتحدة ما زالت تتعثر في قراءتها لأحداث الثورة المصرية ودلالاتها, وتتلعثم في بلورة ردود فعل إزاءها. ويتزايد مقدار المفارقة المتمثلة في اتجاه الولاياتالمتحدة إلي فرض المشروطية السياسية تجاه مصر بعد قيام ونجاح ثورة ديمقراطية كان الدور الأمريكي في قيامها ونجاحها معدوما, في حين أن الولاياتالمتحدة, لم تعمد من قبل إلي استخدام المشروطية لهذا الغرض في مواجهة نظام ضيق بأشكال شتي علي الديمقراطية, حيث كان استبعاد آلية المشروطية بهدف دعم الديمقراطية ملمحا هيكليا للمعونة الأمريكية لمصر في ظل النظام السابق لقد ارتبطت المعونة الأمريكية بتوقيع معاهدة السلام التي رفعت المعونات المقدمة لمصر من صفر لتصبح ثاني أكبر متلقي للمعونات الأمريكية منذ نهاية السبعينيات. هذه المعونات وإن لم تكن مشروطة بالمعني المباشر, إلا أنها جاءت في إطار معادلة إقليمية يتوقع في إطارها ألا تتناقض حركة مصر الإقليمية مع مصالح الولاياتالمتحدة. وفي ظل هذه الصيغة كانت المبادلة تدور حول استمرار معاهدة السلام مع إسرائيل, وأن تلعب مصر دورا إقليميا داعما للاعتدال بصيغة تجعل من الاعتدال نقيضا للمقاومة أو الراديكالية بمختلف أشكالها. ولم يتغير هذا التوجه الأمريكي بتعاقب الإدارات المختلفة مهما كانت مواقفها وسياساتها العامة إزاء مسألة دعم الديمقراطية. ففي الوقت الذي تبنت فيه إدارة الرئيس بوش الأب ألوان من المشروطية السياسية الواضحة في عدة مناطق من العالم, مثلت مصر استثناء واضحا من هذا الاتجاه, ولم يتطرق برنامج المعونة الأمريكية لمصر لهذه القضية, رغم أن الحاجة المصرية للمعونة في أوائل التسعينيات كانت تمكن الإدارة الأمريكية آنذاك- إذا كانت بالفعل راغبة في ذلك- من أن تمارس الضغط علي النظام السابق, وذلك أسوة بضغوط مماثلة مورست تجاه العديد من الدول لدفعها لتوسيع هامش الديمقراطية أو إقرار تعديلات دستورية تعزز من التحول الديمقراطي. وفي ظل إدارة كلينتون, ورغم استمرار تطبيق الولاياتالمتحدة لدرجات متفاوتة من المشروطية السياسية إزاء بعض الحلفاء التقليديين مثل كينيا وهي ثالث أكبر متلقي للمعونة الأمريكية, ظلت مصر استثناء من هذ التوجه, وإن عمدت إدارة كلينتون إلي تقليص المعونة الاقتصادية لمصر بمقدار10% سنويا في إطار مبدأ التجارة لا المعونة, حتي بلغت أقل من نصف مقدارها في السنوات الأخيرة. والأرجح أن هذا التوجه لخفض المعونة الأمريكية لمصر لم يكن له سوي دوافع مصلحية مرتبطة بتقييم الولاياتالمتحدة لأهمية مصر أو دورها الإقليمي أو العائد المتوقع أن تحصل عليه من مساعداتها الاقتصادية لمصر. ولم تتبن إدارة بوش الإبن أي تغيير في تلك الملامح البنوية لعلاقات المعونة الأمريكية لمصر, ففي ذروة تركيز الخطاب الأمريكي علي أولوية الديمقراطية وسياسات دعمها, وفي ظل مبادرات الشرق الأوسط الكبير والموسع, لم تمارس الولاياتالمتحدة المشروطية السياسية تجاه مصر, ومورست المشروطية فقط لتأمين مصالح إسرائيل في إطار الضغوط من أجل التضييق علي الأنفاق والتهريب. وفي نفس السياق, لم تتعرض مصر ما قبل ثورة25يناير إلي المشروطية السياسية من قبل البنك وصندوق النقد الدوليين والتي عادة ما تتم بتوصية أو ضوء أخضر من المانحين الرئيسيين, خاصة الولاياتالمتحدة وغيرها من القوي أصحاب الكتلة التصويتية الأكبر في قرارات المؤسستين, وذلك أسوة بدول أخري تعرضت لأشكال متفاوتة من المشروطية تحت مسمي دعم الديمقراطية منذ التسعينيات. ومن ثم, فإن فرض المشروطية السياسية علي مصر الآن يبلغ بالمفارقة أقصاها, نظرا لتطبيقه في مرحلة من المفترض أن تشهد دعما لتحول ديمقراطي بازغ من خلال حزم مساعدات تسهم في مواجهة الاقتصاد المصري لصعوبات هذه المرحلة الحرجة بدلا من تكبيله بشروط, إذا كان القصد بالفعل هو دعم الديمقراطية, بينما يعد استدعاء تلك الآلية من جعبة السياسات الأمريكية هو تطبيق بأثر رجعي لسياسة كان من الأولي والأجدر تطبيقها إزاء النظام السابق! كما أن التردد في إعفاء مصر من الديون يرجح أن الولاياتالمتحدة لم تحسم بعد حساباتها المصلحية تجاه مصر, انتظارا لتبلور سياسات خارجية مصرية أكثر وضوحا, بما يؤكد أن قضية الديمقرطية المصرية لدي الولاياتالمتحدة مسألة هامشية بينما اعتبارات المواءمة المصلحية هي المرجعية الحقيقية لحسابات المنح والمنع.